لا أتمنى الآن شيئاً، سوى أن يسجل التاريخ كل الظروف والملابسات والتفاصيل الدامية التي أحاطت بما أنجزه مؤتمر الحوار الوطني من مخرجات غير مرضي عن كثير منها إلا باعتبارها المتاح الآن، وأن�' لا يُنظر إليها مستقبلاً بعين عوراء متعالية متهمة. وبمعزل عن هذا الركام المتناثر حول الحلم بالوطن. للأسف هناك ذاكرة جمعية ذات شقوق وشروخ سيتسرب منها الكثير، وهناك محاولات حثيثة ممنهجة لطمس وردم الحقائق والملابسات وتنظيف سجلات القذارة، وهناك نوايا مبيتة للمزايدات مستقبلاً، سيحضر الإنجاز المتاح على عواره وسيتم شنقه ألف ألف مرة، وتغيب كل قصص معاناتنا اليومية التي عشناها منذ 15 يناير 2011 حتى يوم 25 يناير 2014.
ستذهب المجازر والغازات والجرائم الممنهجة والدسائس الخبيثة لكسر رغبة التغيير، ستسقط من الأحاديث تفاصيل قطع الطرقات ونشر الخوف والرعب وقصص البلطجة والقنص والقصف، ستطمر الأيام المفخخات واسقاط المدن وتسليم المعسكرات والاغتيالات والاقتحامات، ستذوب جرائم الدراجات النارية ،جداً، وسقوط الطائرات العسكرية على المدن وسيختفي كلفوت وإخوانه، وستتم التغطية على فظاعات الجماعات الارهابية المسلحة، لن يتذكر أحد أن�' بعضها امتلك فجأة ذات يوم عتاد جيش بلا عقيدة قتالية وطنية، تتنازعه ولاءات من عصور المماليك وأن�' تلك الجماعات نف�'ذت بتلك الأسلحة والمقدرات أبشع الجرائم الإنسانية وأن قرابة نصف مليون يمني نزحوا إلى مخيمات بائسة وأن 15 ألف يمني لم يكونوا قد وجدوا مكاناً يأويهم، جراء تهجيرهم قُبيل أيام فقط من انتهاء الحوار، لن يتحدث أحد عن ملصقات كانت تحتل خلفيات السيارات في كل شارع وزقاق يمني للآلاف من الضحايا المدنيين والعسكرين الذين سقطوا في صراعات لم تستهدف سوى شيئاً واحدا هو رأس هذا الحوار.
سينسون قنوات ووسائل إعلام قوى الشر المجلوب لها أكثر خبراء الإعلام الأجانب انحطاطاً والمدفوع لهم أثقال أوزانهم القذرة أتعاباً.
ستتجاوز الأقلام - على اختلاف نواياها - التفاصيل الشيطانية وكل ملامح دروب الجحيم التي مر بها البلد وأهله ، وتُركز على النتائج لسلخها وسلخ منجزيها دون أدنى ذرة من إنصاف.
سيذكرون، مثلا، باسندوة رئيس الحكومة الضعيف والباكي، ولن يتحدث أحد عن كونه كان ذلك السياسي المخضرم الذي قبل أن يختم نصف قرن من تاريخه العملي بدور انتحاري لن يشاهده أحد لوجه هذا الوطن وأهله.
سيتند�'رون على رجل استثنائي لا يجيد الكلام بغير لهجته الصادقة اسمه عبدربه منصور هادي ويطمسون كل ملامح شجاعته وصموده وإصراره على إعادة تشكيل وطن من محظ ركام مفخخ لم يكف يوماً واحداً عن التفجر في وجهه.
لن يتحدث أحد عن أدوار إقليمية غاية في الدناءة والحقد والأنانية بذلت اضعاف ما كان يمكنه مساعدة اليمن وتأمين مصالحها المشروعة لديه - إن وجدت - علانية وبكل شرف ، لكنها اختارت ابتزازه في أسوأ ظروفه وصنع نكباته وكسر قامته بين الأمم، في المقابل لن يكفوا عن الحديث وتضخيم واختلاق كل مساوئ ممكنة عن أولئك الذين استبسلوا في المقاومة والصمود والدعم لإرادة الشعب في التغيير بل لن يذكروا التغيير اصلاً إلا كنكبة، كما دأبوا على محاولة تغيير جنس ثورة الشباب إلى أزمة.
لدينا تجارب قميئة وسيئة في رواية الأحداث وقدرات مهولة على انتقائها وتزييفها، والأنكى أن�' لدينا على الدوام رغبة جاهزة ومذهلة لتصديق كل زيف وتقبل كل زور، ولا داعي هنا لنكء جراح وذكر أمثلة قريبة.
جميعنا ممن يحيُون هذه اللحظة شهود مسؤولون أمام الله والوطن والأجيال القادمة لتبيان كل ذلك كما هو وكما حدث، وأن لا نجر مماحكاتنا التي نعرف صادقها من كاذبها كأثقال على رقبة أمانة الرواية والشهادة.
ها نحن على رغم كل ما مر وما لن يُعرف أو يروى منه نعبر إلى الآتي كيفما كان، اشواقنا تتوق لبصيص من أمل ولسان حالنا "من مشنقة إلى مشنقة فرج" كما يقول مثل شعبي شهير، نسير قابضين على جمر سينطفئ في كف المرحلة وجعاً ورماداً ، ربما لن يعلم عنه مزايدو المستقبل شيئاً.