لازال هناك من يصر على أن تعز عاصمة الثقافة اليمنية، سمعنا ذلك مراراً وتكراراً، منحة مبتورة بمرسوم رئاسي بدوافع غير بريئة، غزل غير شريف لا علاقة له بالثقافة مطلقاً، ضرورة التصالح مع حقيقة تاريخية قاهرة ترعب السياسيين والطامحين بكرسي الرئاسة ونعيم الحكم، وحدها تعز صاحبة الحق الحصري لذلك، بيدها وحدها مفاتيح القصر الجمهوري، اكسبوها ولو نفاقاً وخديعة، أمراً حتمياً لا مناص منه، استدراجها إلى غياهب الصمت في أسوأ الأحوال. كما هو الحال بالنسبة لمرشحي الرئاسة الأمريكية لا بد من العبور من بوابة إسرائيل بخطاب عاطفي ودود في الكنيست مسلك إجباري وحيد لبلوغ المكتب البيضاوي، فيما يتعلق بتعز تتحول عبارات الغزل والمديح إلى هراء سخيف. مخاتلة مفضوحة لتخفيف مآرب أخرى، الحاجة السياسية حولت الأمر إلى مجرد أداء واجب إلزامي هو إلى التشفي والسخرية أقرب منه الى الحقيقة والواقع، لا أحد يمكنه الإجابة بمسؤولية وضمير عن معنى أن تكون تعز عاصمة للثقافة؟ علي عبدالله صالح أول من أطلق هذا الوصف (بمرسوم رئاسي أجزم أنه لم يكن يدرك ما يعنيه أمراً كهذا)، ذهب صالح وجاء عبدربه ليفاجئنا ودون إدراك ربما بتسطير العبارات الغزلية ذاتها لتعز، مدفوعاً بالهواجس والرغبة السياسية ذاتها وبقرار رئاسي أيضاً، برغم أنه كان في غنىً عن فعل ذلك لكون تعز رأت حلمها في التغيير يتحقق فيه ولو جزئياً.
لا يمكن الحديث طبعاً هنا عن دور الأحزاب السياسية في تبني المشاريع الثقافية ورعاية المثقفين، هي بتركيبتها الحالية بعيدة عن هذا الشرف الرفيع، الثقافة ليست من أولويات قياداتها المسكونة بشبق جارف لبلوغ السلطة بأي وسيلة، لا تدرك (أو لا تريد أن تدرك) أن العمل الجماهيري الذي لا ينطلق من خلفية ثقافية ولا يتسلح بوعي معرفي عمل غوغائي محض، فعل عبثي محدود التأثير.
مثال بسيط سأورده هذا ليكون كلامي واقعياً: في سعيها المحموم لكبح جماح التنين الصيني سلكت أمريكا كل السبل: حاصرت الصين اقتصادياً وسياسياً، استخدمت سلاحها الفتاك: الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تحدثت عن وحشية السلطات الصينية تجاه معارضيها، بحّ الصوت الأمريكي سمعه العالم ولم يظفر بمجرد قلق صيني حياله، لكن عندما نشرت رواية "جمهورية الظلام" للأديب الصيني ليوان لو (لو لم تخني الذاكرة) وكان رد الفعل السلطات الصينية حيوانياً، ارتعدت فرائص الحزب الشيوعي الحاكم من الرعب، بلغ الإرباك والتوتر منتهاهما وكأن هجوماً بأسلحة مدمرة ضرب الصين وليس مجرد رواية أدبية استطاع مؤلفها المغمور المطارد من سلطة بلاده القمعية الهرب بها إلى ألمانيا ونشرها بعد أن صودرت مرتين وسجن بسببها أربع سنوات، والسر لا يحتاج إلى نباهة مطلقاً، أراد صاحب الرواية تعرية سلطة ديكتاتورية مستبدة وإزالة القناع عن الوجه الوحشي البشع لصانع الرفاهية للعالم، قول الحقيقة للعالم دون رغبة في تحقيق مكاسب من أي نوع، بينما كان دافع أمريكا سياسياً.
أحزابنا السياسية لم تعِ هذه الحقيقة بعد، مع الأسف ما تزال تعيش قطيعة مع الثقافة بكل صورها وأشكالها وأجدني هنا منساقاً لتوجيه عتاب ولو قاسٍ نوعاً ما للتجمع اليمني للإصلاح فالنهوض بدور تعز الثقافي مسؤوليتنا جميعاً، ولكوني إصلاحياً أعرف حجم الثروة الكبيرة من المثقفين والمبدعين داخل الإصلاح، قدرات إبداعية مذهلة مهدورة ومغيبة مع الأسف، بإمكان الإصلاح استثمارها لو أراد، وأقول أن في أيديهم القدرة ويعنيهم الأمر في الإصلاح: لا يمكن لأحد إنكار الدور المذهل الذي لعبه الفن الجماهيري وأشرطة فهد القرني ومحمد الأضرعي في خلق وعي متقدم بالنضال السلمي قبل ثورة فبراير، لقد وفرت تلك الأشرطة بتناولاتها المختلفة أرضية خصبة نمت فيها الثقافة الحقوقية والسياسية، وأزالت شبح الخوف من تفكيرهم وهيأتهم نفسياً لثورة لم تكن في حسبان أحد.
لذلك فالإصلاح معني على كل حال بالانتصار لتعز ثقافياً كما انتصر لها سياسياً لكونه يمتلك إمكانات مادية وقدرات إبداعية خلاقة (وهذا لا يعني التقليل من دور بقية القوى في الساحة والذين هم مطالبون بالقيام بدورهم لإنقاذ تعز من إهمال لا يمكن تفسيره إذ أنه انتقام من مدينة عصية على الصمت والاستلاب).
أسبوع قضيته في تعز أنهكني التجوال بحثاً عما يشي بكونها عاصمة ثقافة: لا مكتبة، لا دار نشر سوى مؤسسة السعيد التي تعيش في سبات عميق.
وددت العثور على شاعر واحد ينقذني من طوفان التذمر والسخط الذي يجتاح مدينة الحلم والابتسام، يشهر في وجهي قصيدة أمل مترنمة بالشجن، مبدعاً واحداً من أي صنف ما زال يذود عن جمال تعز الآسر الذي يتوارى بسرعة مخيفة ليحل محله القبح والتخلف والجهل وأفكار حوثية تستشري بحقد متنكر بكارثة، تعز لا تتحدث غير قصائد شعبية تردد ترانيم محبة وسلام، تحتفي بالجمال وتنثره عطراً للعابرين، ذلك هو ذنبها الوحيد وهي الآن تدفع الثمن غالباً جداً ولا بوادر لأمل يلوح في الأفق، قد نكون سذجاً إذا عولنا على تحرك رسمي، فالجاني لا يكون منقذاً أبداً.