الاشتباكات الدموية التي حدثت بين أبناء قبيلتين مصريتين في أسوان لم تكن ملفتة للنظر بدمويتها وضحاياها من القتلى والجرحى فقط؛ ولكن لكونها وقعت في مجتمع قيل فيه وفي أمثاله في الوطن العربي أنه تخلص من آفة القبيلة وعصبيتها، وتجاوز الهوية الضيقة للقبيلة والعشيرة إلى الهوية الوطنية الأكثر رحابة! ونظن أن حادثة أسوان المصرية في المجال اليمني سيكون لها بعد خاص؛ فطوال عقود من السنين الماضية كان الإعلام العربي محلاً لتنظيرات النخب العربية والمصرية عن القبيلة اليمنية وسلبياتها، وشراستها وعدوانيتها، وتمردها على القوانين ومقتضيات التطور في العصر الحديث، وهي الصورة النمطية التي نتجت عما حدث في المناطق التي عرفت الحرب الأهلية الطويلة في الستينيات بين الجمهوريين والإماميين الملكيين، وكانت القبائل طرفاً أساسياً فيها على الجهتين.. ثم تعززت بأحداث الثالث عشر من يناير 1986الدموية في عدن، ووصولاً إلى الحرب الأهلية عام 1994.. وفي كل تلك الأحداث حرص الإعلام العربي على تقديمها إعلامياً وتفسيرها سياسياً بأنها من نتاج نفوذ القبائل والروح القبيلة المهيمنة في اليمن!
وفي العادة كان الحديث العربي عن القبيلة في اليمن يتم بنفسية الاستعلاء، وبروح الاستهجان والسخرية، والتأفف والرعب والشفقة على اليمن من استمرار ظاهرة القبيلة ومظاهرها بوصفها مضادة لحركة التاريخ والدولة الحديثة، وأحد انعكاسات حالة التخلف التي يعيشها المجتمع اليمني دون غيره من المجتمعات العربية! وقد عكست هذه السمعة عن اليمن صورة مرعبة لدى العرب الآخرين، وأذكر أن مدرساً سورياً عاش في اليمن فترة طويلة من عمره بسبب الظروف السياسية المعروفة في بلده، وفي يوم اشتاقت والدته العجوز لرؤيته فجاءت من سوريا لزيارته لوحدها.. فصارت المرأة العجوز وزيارتها تلك مثلاً يضربه أهلها في سوريا: أن هذه العجوز ذهبت إلى اليمن وعادت.. بمفردها!
——— على العكس من الحيوية التي مارستها القبيلة في اليمن بصرف النظر عن سلبياتها أو إيجابياتها؛ فقد ظلت القبيلة في المجتمعات العربية موجودة ولكن بدون تأثير على الأقل ظاهرياً، وظل دورها العام والسياسي خاصة محكوماً بالقبضة السلطوية الجبارة التي نزعت أنياب القبيلة، وجعلتها مجرد كومبارس للنظام القائم حين تحتاجه أجندته السياسية فقط، ولذلك كانت القبيلة تبرز إعلامياً في البلدان العربية تحديداً زمن الانتخابات؛ سواءً بالتجاء المرشحين للاستقواء بعصبية قبائلهم وعشائرهم.. أو حين تلجأ الأنظمة (المدنية) للاستعانة بزعماء العشائر والقبائل لمبايعة الزعيم الضرورة والحزب الحاكم، وتنظيم حفلات التأييد التام له باسم القبيلة والعشيرة، فحينذاك كان يمكن ملاحظة أن القبيلة ما تزال حاضرة ومعترف بها رسمياً! والحق أن ذلك الاستخدام الرسمي لم يقتصر على القبيلة فقط؛ فقد استخدمت الأنظمة الفاسدة كل شيء بدءاً من المؤسسات الدينية، والعلمية الأكاديمية، والرياضية والفنية، والنقابات والمنظمات الجماهيرية، وفي بلد كمصر كان استخدام شهرة الرياضيين والفنانين أحد ثوابت السياسة المصرية في كل العهود. وبصفة عامة ظلت القبيلة العربية - في غير اليمن- متوارية خلف الدولة، وتابعة لها؛ إن لم نقل إنها كانت خاضعة لها تماماً ولو ظاهرياً، وتؤدي خدماتها للسلطة لكن دون أن تصير مادة إعلامية للحديث عن دورها المتأصل سلباً أو إيجاباً.. وفي المقابل ظلت الظاهرة القبلية في اليمن هي الوحيدة محل النقد والاستنكار!
ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وصولاً إلى تداعيات انهيار الأنظمة في بلدان ثورات العربي، وانكشاف أكذوبة الدولة الحديثة التي بناها الزعماء؛ تأكدت حقيقة أن القبيلة هي أحد الثوابت الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي.. وأنه لا فضل لبلد عربي متقدم في المدنية، وفي نسب التعليم والصناعة، وفي قوة الدولة وجبروتها على المجتمع اليمني المتهم بأنه مجتمع قبلي متخلف تخضع الدولة فيه لقوة القبيلة وتدخلات زعاماتها، وترضخ لمطالبهم وشروطهم! وها هي بلدان عربية يكتشف الناس أنها ما تزال تعرف الظاهرة القبلية وبأسوأ مظاهرها (أي العصبية القاتلة!) وأين؟ في مصر، والعراق، والأردن، وليبيا، ودول الخليج الثرية.. إلخ المجتمعات التي ظن الناس - أو هكذا أرادوا أن نفهم- أنها قد تجاوزت تلك الروابط العصبية الأصغر بالضرورة من عصبية الوطن الواحد الجامع، ثم تأكد أنها هي أيضا محكومة مثل اليمن بقاعدة: كلنا في القبيلة.. شرق! أو كلنا في القبيلة.. عرب!
في الأنموذجين الصومالي (بداية التسعينيات) واللبناني (السبعينيات وما بعدها) نجد مؤشرات مبكرة – من خارج المجال اليمني- على أن الظاهرة القبلية/ الطائفية لا تستثني مجتمعاً متعلماً أو عرف تطبيقاً سياسياً لأحدث النظريات السياسية والاقتصادية في العالم.. ففي الصومال التي كانت البلد العربي الثاني الذي تبنى الماركسية؛ انكشفت الحقيقة عن كتلة من الهويات القبلية الشرسة التي ما تزال تتقاتل حول التراب والأحجار والجدران التي ربما كان بعضها ما يزال يحمل صوراً لماركس وإنجلز ولينين وشعاراتهم!
أما في لبنان فقد حلّت العصبية الطائفية محل الهوية القبلية؛ رغم أنف السمعة العلمية والتنويرية والحضارية التي التصقت باسم هذا البلد العربي الصغير.. ففي أثناء الحرب الأهلية الطويلة (15عاماً) تأكد أن الهوية الراسخة لغالبية اللبنانيين هي الهوية الطائفية وليس الانتماءات السياسية، وأنها كانت هي المحرك الأساس للحرب والفسطاط الذي لجأ إليه الناس، وليس الأبعاد السياسية والطبقية كما حاول الطرف اليساري يومها أن يفسر أسباب الصراع في لبنان بأنه صراع بين اليمين واليسار: محلياً وعربياً ودولياً. وصحيح أن الطائفية اللبنانية كانت وما تزال مخلوطة بهويات سياسية وثقافية لا ينكر تأثيرها لكن هذه الأخيرة سرعان ما تلاشت أهميتها عند الغالبية على وهج الصواريخ والقنابل وأحدث الأسلحة التي استخدمت في القتال بين الفرقاء اللبنانيين، ولم يبقَ طاغياً إلا الهوية الطائفية الخالصة الوقحة، وهي أشد وطأة بخلفياتها الدينية وتراثها التاريخي المعقد من الهوية القبلية ولو على الطريقة اليمنية!
——— في الحالة اليمنية يمكن ملاحظة أن اليسار عموماً (باستثناء البعث) بنى موقفه من القبيلة على العداء الدائم الذي لا يرى فيها إلا الشر المستطير؛ ربما لأسباب أيديولوجية تؤمن أن القبيلة منتج اجتماعي متخلف ومعادٍ للمشروع اليساري لا حل إلا باستئصاله.. وربما لأنه واجه هزائم عديدة أمام السلطة في الشمال حيث القبيلة حيوية ومؤثرة وداعمة للسلطة، وبدا في حالات عديدة أنهم يفضلون تبرير إخفاقاتهم بإلقاء المسؤولية على دور القبيلة السلبي تجاههم تحديداً وليس على طبيعة مشروعهم الفكري المتضاد مع البناء الديني والاجتماعي للمجتمع اليمني! والغريب أنه رغم هذا الموقف الجذري من القبيلة إلا أن حركات اليسار هذه لم تخلُ من وجود رموز قبلية في قيادتها حتى الآن، وما يزال بعضهم يوصف في الصحف بأنه "الشيخ" رغم توصيفه الحزبي.. وفي التجربة الأبرز تاريخياً لليسار اليمني في جنوب الوطن كانت النهاية الدرامية لها على مذبح الخلافات السياسية مغموسة بالخلافات والثأرات القبلية/ الجهوية.. أو العكس! وكالعادة في الأنظمة الاستبدادية انتهت التجربة الحزبية الطليعية لتكون محكومة بالمحددات القبلية والمناطقية؛ سواءً أكانت اضطرت إلى ذلك بفعل الصراع الدموي لحاجتها إلى تحشيد الأنصار الموثوق بهم، أو بفعل غياب الممارسة الديمقراطية التي تؤدي إلى الشللية والتجنحات التي تبدأ على أساس الفكرة وتنتهي على أساس الانتماء القبلي والمناطقي!
——— في رأينا أن الإيجابي والسلبي في القبيلة لا يتحدد بأصل الظاهرة؛ بل بمؤثرات عدة من خارجها.. فهي كالحزبية يمكن أن تكون عاملاً إيجابياً ويمكن أن تكون عاملاً سلبياً. ولأن الظاهرة القبلية من المستحيل أو من الصعب جداً القضاء عليها كما كان البعض يحلم فالأفضل أن تحدث مراجعات صادقة مع النفس في كيفية التعاطي معها توفيراً للمعارك الوهمية والعنتريات المبددة للطاقات، والمثيرة للأحقاد.. ومن ذلك مثلاً الإقلاع عن فكرة أن أصل الشر في اليمن هي القبيلة، وهي الفكرة التي تجعل البعض ينحاز لكل ناعق ضد القبيلة ولو كان خارجاً من معطف حاكم مستبد وسلطة فاسدة تتوارى خلف الشعارات المدنية، وبالضبط كما حدث أثناء الثورة الشعبية الشبابية حيث بدل هؤلاء مواقفهم وترتيب خصومهم وفق فكرة: القبيلة أصل البلاء وليس الاستبداد، واحتكار السلطة، وتدمير سلطة القانون! وحتى لو قيل إن السلطة السابقة استعانت بالقبيلة لإحكام قبضتها فإن ذلك لا يبرر موقفهم لأنها أيضاً استعانت بمؤسسات عديدة على النقيض من القبيلة؛ ومنها مؤسسات وجماعات وأحزاب ورموز تقدمية وحداثية معادية للقبيلة باسم المجتمع المدني، وها هم الحداثيون والتقدميون والعلمانيون المصريون في صدارة سلطة الانقلاب العسكري على السلطة المدنية الديمقراطية، ويعملون في دأب هذه الأيام لإعادة انتاج أحد أسوأ الأنظمة القمعية الفاسدة في تاريخ المنطقة نكاية بالقبيلة.. أقصد الإسلاميين هذه المرة!