منذ زمن ليس قصيراً صرت أشعر بوخز كلما سمعت عبارتين؛ الأولى: "الزمن الجميل" وما يلصق بها من صفات العظمة والتقدم والحنين إليها.. والأخرى عبارة "ثقافة الرشوة.. وثقافة الفساد.. وثقافة القتل والخطف" إلخ أنواع السلوكيات السلبية والفاسدة التي صارت ثقافة.. وأصحابها بالضرورة مثقفون ولا يمنع أن يكونوا أعضاء في اتحادات الكتاب والأدباء، وربما يستحقون الترشيح لإحدى الجوائز العربية والعالمية! سر الاقتران القسري لمفردة الثقافة التي ظلت رمزاً للعلم والاجتهاد في تحصيل المعارف بمفردة الفساد؛ فسرها ناقد سينمائي فرنسي في حوار له مع مجلة "نيوزويك" – وذكرنا ذلك في حينه- بحالة الاحتقار التي يكنها الأمريكيون للثقافة والمثقفين! لكن المتلقين العرب أخذوا العبارة ولاكوها دون تفكير في دلالاتها ومعناها، وسلبية ذلك على الثقافة كنشاط إنساني يرتبط بالعقل، والنفس، والمشاعر النبيلة!
وربما لا يشبه هذه الإساءة لمفردة جميلة مثل الثقافة إلا الإساءة التي يوجهها البعض لمفردة "الاجتهاد" عندما ينسبون إليها الإمام يحيى حميد الدين، ويصفونه بأنه.. مجتهد! وقبل سنتين - إن لم أكن مخطئاً- حصل طالب يمني على شهادة الماجستير أو الدكتوراه حول اجتهادات الإمام يحيى الفقهية.. وهي- إن صحت- لا تمنحه الحق للحصول على لقب مجتهد هكذا ودون فرامل.. وغاية ما يقال إن له اختيارات فقهية يمكن للآلاف من طلبة العلم هذه الأيام أن يقوموا بها دون أن يقال إنهم مجتهدون! ليست الإساءة لمعنى الاجتهاد في حالة الإمام يحيى في وصفه بالمجتهد لاختياره رأياً فقهياً ما من بين الآراء الفقهية الكثيرة في كتب الفقه.. المأساة تتجسد عندما نتذكر كيف أدار الإمام اليمن تحت سلطانه كأنها مزرعة دواجن ورثها عن أبيه! وفرض عليها من الجهل والتخلف ألواناً في غاية البشاعة والظلم والاحتقار لإنسانية الإنسان اليمني، حتى صار اليمني علامة على المرض، والفقر، والجهل! وأعاد اليمن سنوات إلى الخلف بعد أن كانت قد عرفت شيئاً من مظاهر العصرنة والتقدم في العهد العثماني!، وحتى استحق أن يصفه شاعر النكبة هارون هاشم الرشيد بأنه كان يعيش في عصر ثمود.. وهذا قول ينبئ في الحقيقة عن عدم دقة الشاعر وجهله بأوضاع اليمن أيام الإمام يحيى، وإلا فإن قوم تمود كانوا قد بنوا حضارة غنية قوية، وكان الأفضل القول إن اليمن في عهد يحيى حميد الدين عادت إلى عصور أقدم من ثمود! يا زماناً.. ليته لم يكن! عبارة الزمن الجميل هي الأخرى تستخدم استخداماً سيئاً، ويراد بها تلميع زمن أنظمة وحكام لدواعٍ سياسية وحزبية فقط.. وإلا فقولوا لنا: ما معيار الزمن الجميل لبلد ما ونظام ما إن لم يكن في تحقيقه لأحلام الشعوب في الحياة الحرة الكريمة، والمحافظة على الاستقلال الوطني، وإقامة مجتمع المساواة والحرية، والديمقراطية الصحيحة.. إلخ الأحلام والأهداف التي كان العرب يحلمون بتحقيقها بعد رحيل الاستعمار، ولم يتحقق منها شيء يستحق الذكر؛ ففلسطين ما تزال محتلة.. ومعها الجولان، وسيناء ناقصة السيادة، ولكي تدخل مصر قوات إليها فلا بد من استئذان إسرائيل.. والعراق احتل وما زال مربوطاً بالسلسلة الأمريكية.. وبحار العرب تموج فيها أساطيل الأجانب، وأجواؤها مفتوحة لطائراتهم كالسماء تجول فيها كما تشاء دون عتاب لأنها تحمي الكراسي والعروش!
وحدثوا ولا حرج عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتقدم العلمي والصناعي والزراعي.. ما زلنا أمة تلبس مما تستورد.. وتقدمتنا دول كانت في الخمسينيات والستينيات مستنقعاتٍ وأحراشاً تعاني من المجاعات والأوبئة فصارت نموراً وأسوداً في الاقتصاد والعلوم.. ومنها من صعد إلى الفضاء، وفجّر الذرة!
هذا الواقع السيء والمخجل ليس إلا ثمرة لسنوات يقال عنها الآن إنها الزمن الجميل.. ويبكيها أناس ويتحسّرون عليها مستغلين حالة الإحباط التي يعيشها أبناء الأمة ولا سيما الأجيال الجديدة ليزيفوا وعيها ومشاعرها من خلال الحديث عن الزمن الجميل، وهو يقصدون الزمن الذي كانوا هم فيه في سدّة الحكم.. وكان هم السادة المسيطرين على كل شيء، فلما خسروا السلطة، وانفضحوا أمام الجماهير، وتوالت على الأمة مصائب أنستها مصائب الزمن الجميل استغلوا حالة الفوضى لينبشوا زمنهم المجهول لدى الأجيال الجديدة ويصورونه بأنه هو الزمن الجميل الذي راح! متجاهلين أنه لو كان حقاً زمناً جميلاً لأثمر أزمنة أجمل وأعظم منه، وأوطاناً عزيزة منتصرة متقدمة، وشعوباً حرة تحكم نفسها وليست قطعاناً تساق بالإذاعات والميكروفونات!
ولا عزاء لمن سيبررون الإخفاقات بالمؤامرات الداخلية والخارجية أو الرجعية والإمبريالية.. فلو كانت الأنظمة نجحت حقاً في تأسيس الزمن الجميل لما سقطت بفعل المؤامرات، ونجحت في تجاوزها والتغلب عليها؛ وخاصة أنها كانت تملك القوة والهيمنة على كل شيء.. وتحظى بدعم قوى عظمى.. لكنه الفشل والاستبداد والخيانة لأحلام الشعوب هو الذي أسقطها أمام العدو وجعلها تضيّع كل شيء!
وكيف يكو زماناً جميلاً وأبرز إنجازات الأنظمة الحضارية هو ديكتاتوريتها، ومعتقلاتها التي وضعت فيها خلاصة العقول العالمة والمثقفة.. فهل يمكن أن يقول أولئك الذين قضوا زهرة عمرهم في أقبية السجون أن ذلك كان زمناً جميلاً؟ وكيف يقتنع من فقد أباه أو ابنه أو فقدت زوجها أو من تشرّد في الأرض بسبب الحكام المجرمين أن ذلك الزمن كان هو الزمن الجميل الذي يستحق المراثي والبكاء؟ وكيف يقتنع الفلسطيني الذي ضاعت بقية أرضه وتشرد ملايين من أبناء شعبه في الستينيات أنها كانت الزمن الجميل المغتال؟ وكيف يقتنع بذلك من كان محروماً من حرية التعبير عن نفسه أو التبشير بأفكاره ومبادئه في الصحافة والمسرح والكتاب والعمل السياسي؛ كما يفعل بحرية اليهود والهنود في بلادهم، وكما كان يتمتع أصحاب فرية الزمن الجميل؟
هل قصارى معنى الزمن الجميل أنه كان الزمن الذي تفوق العرب فيه في تنظيم الاستعراضات العسكرية؛ حيث تمخر الدبابات، وتحلق الطائرات، ويضرب الجنود الأرض بقوة حتى يتعالى التراب.. حتى إذا حل يوم الوغى "كسحنا اليهود ببساطة" على حد تعبير زعيم عربي لزميل له؛ وفي ثلاث ساعات؟
هل هذا هو الزمن الجميل؟ الظريف أن زميلاً مهتماً بفن السينما سمعته يزهو بقناة قال إنها متخصصة بأفلام الزمن الجميل.. وفي الأخير اتضح أن مفهوم الزمن الجميل هنا يشمل إنتاج السينما المصرية من أيام الملك فؤاد فابنه فاروق فرؤساء الجمهورية بدءاً بمحمد نجيب فجمال عبد الناصر إلى أنور السادات وحسني مبارك.. فكل أيامهم كانت أيام الزمن الجميل وأفلامها أفلام الزمن الجميل! زمن جميل غير إحنا شوية شعوب قبيحة لا تعرف الجمال! إذن.. كانت حرباً شرعية! على هامش ذكرى حرب 1994؛ كتب أحد الزملاء مقالاً يشيد فيه بالانتخابات النيابية التي جرت في بلادنا عام 1993؛ إلى حد وصفها بأنها أعظم انتخابات ديمقراطية وحرة ونزيهة عرفتها اليمن.. مع عدم نسيان إدانة الحرب الظالمة التي حدثت بعدها!
ونحن نفهم أن يقال إن اللجنة العليا التي أدارت الانتخابات يومها كانت أكثر توازناً مما جاء بعدها، وإن كان ذلك التوزان صبّ في مصلحة الحزبين الحاكمين يومها: المؤتمر والاشتراكي اللذين كان لهما نصيب كبير في عضوية اللجنة جعلهما يتحكمان في مجريات الانتخابات بما فيها طريقة توزيع القوات المسلحة والأمن لضمان فوز مرشحيهم بالأصوات المضمونة في غالبيتها بالأمر العسكري والقبلي.
أما عن نزاهة الانتخابات وحريتها وديمقراطيتها؛ فالذين عايشوا تلك الانتخابات وكابدوا ديمقراطيتها المرة؛ ومايزال كثيرون منهم على قيد الحياة، يتذكرون أنها لم تخلُ من التزوير بكل أنواعه، واستغلال إمكانيات الدولة المادية والمعنوية لمصلحة مرشحي الحاكمين.. وهل يعقل أن انتخابات تتم في ظل هيمنة المؤتمر والاشتراكي ثم تولد نزيهة حرة وديمقراطية؟ ويكفي التذكير فقط بالمؤتمر الصحفي الذي عقده عدد من المرشحين في المحافظات الجنوبية، وكشفوا فيه ما حدث من تجاوزات فظيعة في حقهم.. أو استقالة الأخ عبد الملك المخلافي عضو اللجنة العليا للانتخابات والمتحدث الرسمي باسمها لنفس الأسباب أي: أعظم انتخابات نزيهة وديمقراطية! وأذكر أنه في صنعاء العاصمة – و كنت يومها في غرفة عمليات الإصلاح الانتخابية- كيف أن من بيده كنترول إطلاق النتائج أوقف في لحظة إعلان النتائج في عدد من الدوائر بعد أن اتضح أنها ستكون لمصلحة الإصلاح! ولم يكفه ما زوره في دوائر أخرى بقوة أصوات العسكر والجنود المأمورين! ولولا حوارات ومجادلات صاخبة وتلويح بالانسحاب لما تم الإفراج عن نتائج الدوائر التي فاز فيها مرشحو الإصلاح، وكان ملفتاً للنظر أن النتائج بدأت تتدفق فوراً تجسيداً لأعظم انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية في تاريخ اليمن!
على أية حال؛ فطالما هناك كثيرون غير الزميل المشار إليه يؤمنون أن انتخابات 1993 كانت نزيهة وحرة وديمقراطية؛ فعليهم- تصديقاً لذلك- أن يقلعوا عن وصف حرب 1994 بأنها كانت ظالمة، وغير شرعية وقضت على الوحدة السلمية.. لسبب بسيط وهو أن القيادة السياسية التي انبثقت عن الانتخابات النزيهة الديمقراطية العظيمة، وكانت تحوز على الأغلبية في البرلمان، هي التي قادت الحرب ضد المتمردين على نتائج أعظم انتخابات ديمقراطية في اليمن!