في صباح شاعري جميل غادرت تعز، الأمطار الغزيرة التي هطلت البارحة غسلت عن عاصمة الثقافة كل ما علق بها، وأزاحت مخلفات القمامة بعيداً عن الأنظار، لتبقى أدران السياسة عالقة. كل شيء يبعث على التفاؤل المبهج وأنا أتأبط "أحزان قرية الحظرات" مخطوط روايتي البكر التي أعلّق عليها بعض الأمل لإزالة الحرج عن نزف حكومي بترشيح تعز عاصمة للثقافة العربية، وبين جوانحي حلم أحاول أن لا يكون سراباً بقيعة هذه المرة وقد نفخ فيه أستاذي العزيز علي الفقيه روح الأمل، بعد سلسلة مقالات متواضعة في "المصدر" لا تخلو من الركاكة الأسلوبية والصياغة البلاغية الضعيفة وغباء الفكرة أحياناً، تجاوزها الفقيه بكرم باذخ تاركاً بصمة قوية في حياتي لا تنسى، فأن يكون طموحك لا يتعدى نشر مقالاتك البسيطة في ثنايا صحيفة تحبها وغالب رهانك على تعاطف المحرر وتفهمه الإنساني لشغفك لتفاجأ ذات خميس بك على واجهة الصفحة الأخيرة، فذلك معناه أن يداً رئيفة امتدت لتنتشلك من تحت أنقاض النسيان وركام الإحباط، دافعةً بك إلى الواجهة في طريق أن يصبح حلمك الذي حملته سنوات دون أن يشيخ حقيقة واقعة، وتعتقد أنه لم يعد سوى نقيل سمارة (المعذرة أعزائي القراء هل أبدو متملقاً أكثر من اللازم؟ أعرف أنه لا شأن لكم بأمور عادية لشخص نكرة في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن، أحاول فقط العثور على بداية لطيفة لتواصل قد يستمر). وبما أنه لا مهرب من أزمات الوطن تابعوا القراءة، فقد امتلأ البيجو وشرع السائق في رص عشر "دبب" بلاستيكية سعة 20 لتراً واحدة منهن فارغة. لا مظاهر لأزمة المشتقات النفطية في تعز، ثلاث دبب مع الأخرى الفارغة في الخانة. قرار خفض عدد ركاب البيجو إلى ثمانية يبدو موفقاً ودفعني لكبح بوادر قلق من منظر البيجو الذي يفترض أنه قد أحيل للتقاعد عن تسلق سمارة منذ سنوات، والاكتفاء بالركون إلى تطمينات السائق الذي بدا منشغلاً بدبب البترول غير مكترث بالتحذيرات وعبارات الاحتجاج التي أبديناها نحن الركاب ومحاولاتي تذكيره بخطورة سفرنا بمعية 180 لتراً من أكثر المواد خطورة وأسرعها اشتعالاً على الإطلاق، لم نفلح مع ذلك فالبترول منعدم في صنعاء وهو اليوم الذهب الأسود الثمين يستحق المجازفة ووضع حياة جميع من في السيارة على كف المجهول.
الحديث عن إجراءات السلامة في بيجو مهترئ يشبه تماماً حديث خالد بحاح عن انعدام السيولة في وزارة الثروة، بعد دقائق من الانطلاق يركن السائق البيجو ساحباً ليملأ الدبة الفارغة العاشرة من خزان السيارة ليتضاعف الخطر إلى 20 لتراً، فيما هاتفه لا يكف عن الرنين وتطميناته لا تتوقف أن البضاعة بحوزته، ملأت رائحة البترول أجواء السيارة، ولم تفلح محاولاتي السماح لمزيد من الهواء بالدخول من تلافي صداع ضاعف هو الآخر من وعثاء السفر الذي هو أصلاً قطعة من جهنم وجهنم رفيقة سفرنا، لم يكن لنا من خيار سوى الباري جل في علاه نلهج له بالدعاء ليرحمنا ويحفظنا برعايته، طوابير السيارات الطويلة أمام محطات الوقود التي بدأنا نشاهدها ابتداءً من ذمار، جعلتنا ندرك كيف تتحول الأزمات لدى البعض إلى مصدر ثراء، عروض مغرية تلقاها السائق في مدخل العاصمة وصلت إلى ثمانية آلاف ريال للدبة الواحدة، وهو يصر أنها رسالة. السوق السوداء في أوج ازدهارها ولا بوادر لحلول وشيكة. شخصياً، بعد تفويض أمرنا لله عز وجل لم يعد يشغل بالي سوى لحظة الالتقاء بكم من خلال "المصدر" آملاً أن تجدوا فيما أكتب ما يستحق القراءة، وكذلك إشفاقي الأبوي على الطفلة التي كانت راكبة خلفي والتي داهمتها نوبات قيء عنيفة بفعل رائحة البترول بينما والدها لا يكف عن "الزبج" لتلطيف الأجواء.