لم يسأم الرئيس قط من الاستحضار المتكرر واللامجدي للأيام الخوالي. الرجل القوي والجبار الذي كانه. تلك اللحظات المجيدة والتي لا تستبدل، المفعمة بما يدعوه ميكافيلي "الفورتونا"، أي ذلك "التفاعل الغامض بين القدر والحظ". ليس ضعيفاً لكنه لم يعد ذلك الجنرال الذي لا يقهر. ولقد توارت إلى الأبد صورة القائد العظيم التي يقدمها غابرييل غارسيا ماركيز لواحدة من لحظات الأبهة والمجد في حياة الزعيم اللاتيني سيمون بوليفار المتذبذبة، حينما كان "يدخل من الشارع الرئيسي مكشوف الصدر، وعلى رأسه وشاح غجري لكي يجفف به عرقه، يحيي الحشود بقبعته وسط الهتافات وطلقات الصواريخ ورنين أجراس الكنيسة التي تغطي على الموسيقى". بيد أن بوليفار في لحظة ما، وفيما كان يتجول في طريقه إلى منفاه الاختياري الذي سيستأنف منه، رغم ذلك، رحلة العودة إلى الحكم ثانية، سمع صوتا وقحا يصرخ "أيها السجق"، حتى إن أحدهم قذفه بروث بقرة "من إحدى الحظائر وارتطم بصدره ولوث وجهه". مهما يكن من أمر، فالرئيس لا يزال قوياً بالتأكيد. لكن ليس بما يكفي لاعتبار الخطورة التي يُحتمل أن يمثلها حميد الأحمر من البساطة بحيث لا يعود لائقاً برجل أمضى 31 عاما في سدة الحكم، ويحتفظ بسيرة حياة مليئة بالأمجاد والملذات وبينها السلطة، الفخامة، المتع، النصر، أن يجفل ويضطرب ويخرج عن طوره على النحو الذي بدا عليه أمس. ... هذه الأيام أظهر الرئيس صالح رغبته في ردم كل الفجوات. فهو على سبيل المثال، كشف الأثنين الفائت، عن استعداده لتشكيل لجان للحوار "تحت سقف الوحدة" مع الحراك الجنوبي مؤلفة من قيادات في السلطة المحلية ومن أعضاء مجلسي النواب والشورى. يأتي هذا في الوقت الذي انتهت فيه المحادثات السرية مع طارق الفضلي إلى تهدئة كان من شأنها التخفيف البسيط من حدة التأزم الأمني في زنجبار. على أن من المقرر أن تباشر اللجنة الخاصة بملف محافظة الضالع أعمالها ابتداء من الثلاثاء الماضي. يرأس اللجنة رشاد العليمي، نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن، وبمعية عبدالقادر هلال وزير الإدارة المحلية السابق، وتتمحور مهمتها في تحليل النزاع واستخلاص وجهات النظر المختلفة، وبالتالي بلورة السياسات اللازم انتهاجها لنزع فتيل التوتر وإعادة الأمور إلى نصابها. وعلى طريقة رجال الإطفاء، تتواصل الجهود التي تبذلها اللجان الوطنية في محافظة صعدة ومحيطها لإخماد أعتى النيران التي شهدتها اليمن منذ حرب صيف 1994. تتوزع هذه اللجان على 4 محاور هي حرف سفيان، والملاحيظ، ومدينة صعدة، والشريط الحدودي مع المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من أن أعضاءها مغتاظون من بطء الوتيرة التي تسير بها عملية تنفيذ الحوثيين للنقاط الست، إلا أنهم يتغاضون عن البطء بالنظر إلى كون مساعيهم مثمرة على أية حال. ... غير أن فجوة أخرى عميقة لا يريد لها الرئيس أن تردم، ويبدو أنه هو شخصيا يتولى توسيعها، واللسان الحاد لسلطان البركاني؛ هذه الفجوة تتجلى في ذلك الفراغ الهائل والممتد بقسوة بين اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي العام. صحيح أنه ما من حمم ملتهبة تتطاير من عمقها، وأن أكثر أسلحتها فتكاً هي تلك التي اختبرها الشيخ حميد الأحمر مرتين عبر قناة الجزيرة، حينما دعا الرئيس للتنحي عن منصبه، وكيف أن الأخطاء التي يقترفها الرئيس بشأن التوريث قد توجب محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، والتلميح إلى أن حرب صعدة لم تكن إلا جزءاً بسيطاً من خطة عملاقة لإضعاف علي محسن الأحمر كأحد العقبات التي قد تعترض صعود أحمد علي إلى كرسي الرئاسة. منذ ذلك الحين أصبح نطاق هذه الفجوة لا متناهياً ومشحوناً بالضغائن والمكائد والدناءات البشرية. ولقد راح ذلك الصراع النبيل والخلاق من أجل الديمقراطية والنزاهة والحريات يتخذ طابعاً شخصياً مبتذلاً أكثر من اللازم. حتى إن ثمة من يشرح لك كيف أن جزءاً كبيراً من البرنامج اليومي للرئيس، مثلما بالنسبة لحميد الأحمر، بات مكرساً بإفراط لبرهنة أيهما أكثر رجولة وصلابة من الآخر. الحقد الشخصي الذي يضمره الرجلان لبعضهما البعض، عكس نفسه بشكل ملحوظ ومباشر على مجريات الحوار بين المؤتمر واللقاء المشترك. هذا أمر لا يحتاج إلى إثبات، فالرئيس الحالي للمجلس الأعلى للقاء المشترك الدكتور عبدالوهاب محمود، أشار إلى هذه النقطة صراحة في الحديث الذي أجرته معه "المصدر" قبل شهر، عندما تمنى أن لا تؤدي حساسية الرئيس من حميد الأحمر إلى إفشال الحوار الوطني. ثم إن الرئيس صالح نفسه أخذ على عاتقه تبيان كم إن العلاقة وطيدة بين كراهيته لحميد الأحمر وكراهية الأخير له، وبين حالة اللاتوافق المطلقة التي آلت إليها جهود الدكتور عبدالكريم الإرياني وقيادات اللقاء المشترك. الرئيس لا يقبل الضيم، فهو يرد "الصاع بصاعين"، على حد تعبيره ل أحمد الجارالله من صحيفة السياسة الكويتية. وفي كلمته التي ألقاها الاثنين الفائت في الأكاديمية العسكرية العليا، استسلم الرجل بكل جوارحه لإغراء رد الصاع الذي أطلقه الشيخ حميد عبر الجزيرة مرتين. إليكم ما قاله الرئيس. فهو بدأ حديثه بهذه الرواية: "أحد أعضاء المشترك، وعلى وجه التحديد من أعضاء الإصلاح، قال سيعمل على هدم هذا الوطن ومنجزاته ويبنيه من جديد من ممتلكاته الخاصة". لم يكن مضطراً للتلفظ باسم هذا الثري الكبير، ولا أين قال هذا الكلام ولمن ومتى. لقد راح يعلق ساخراً: "يا سلااام.. سيدمر هذا الوطن وسيعيد بناءه من ممتلكاته الخاصة". ويتوجه بحديثه إلى هذا الرجل هكذا: "لقد جربت ودخلت المحك والمعترك السياسي وقلك الشعب لا، وعرفك حجمك أين أنت ومن أنت!". الذي يحملنا على الظن أكثر بأن الصلة وثيقة ومنطقية بين خصومة الرئيس وحميد، وبين حالة اللاتوافق السياسية التي تسود علاقة المعارضة بالمؤتمر الحاكم، هو أن الرئيس في سياق "رد الصاع" أعفى نفسه من اتفاق فبراير واعتبره غلطة. يقول الرئيس: "غلطة المؤتمر الشعبي العام أنه وقع مع المشترك اتفاق فبراير، بينما كان لابد من أن تجري الانتخابات في وقتها لولا أن المشترك افتعل أزمة وجرجر المؤتمر". وبينما أخذ يحذر المؤتمر من مغبة "الغلط مرة أخرى في توقيع أي اتفاقات مع المشترك"، أردف يقول: "فلتمضي هذه الفترة ولتأتي هذه الانتخابات في وقتها من جاء يا مرحبا ومن سار يا مرحبا، فالوطن أكبر من هذه القوى السياسية، وطن الثاني والعشرين من مايو وطن كبير، واتفاق فبراير كان خطأ فادحاً من قبل المؤتمر". فيما يخصني أعتقد أن حميد الأحمر بات يأخذ الأمر على محمل شخصي هو الآخر. صحيح هو يجازف بتعريض نفسه للانتقام وضروب لا تحصى من المضايقات. يتحدث الكثيرون عن القلق الذي يثيره حميد باعتباره أحد الرجال القلائل ممن يحلو للرئيس قياس مستقبل نجله السياسي من خلال قوة أو ضعف نفوذهم ودرجة جاذبيتهم السياسية وحضورهم الاقتصادي والشعبي. في الحقيقة يبدو الشيخ حميد الأحمر وكأنه قد عقد العزم على أن يضع إرادته في مواجهة إرادة الرئيس بالذات. لكن قبيلة حاشد، وقد اعترف بأنه يستمد جسارته منها، أصبحت أضعف وأكثر هشاشة من أن تمنحه الأمان الذي يصبو إليه. ذلك أن الحرب في صعدة لم تنهك قوات الفرقة الأولى مدرع فحسب، بل إنها أصابت قبيلة حاشد في مقتل. وبالنسبة لحزب الإصلاح فالأمر في نهاية المطاف ليس شخصياً البتة، ولن يكون بمقدور الحزب الكبير أن يدفع أكلاف تبنيه لمشاعر ومجابهات الفتى حميد. ... أظنني في غنى عن سرد آخر التفاصيل بشأن الحوار بين الأطراف السياسية. فلو لم يخرج الرئيس ليعلن نكوص المؤتمر عن اتفاق فبراير لكنت تحدثت عن المساعي السورية والمعلومات التي تقول بأن البركاني أخفى رد اللقاء المشترك عن الإرياني، والاتصالات اليومية التي يتبادلها الأخير مع عبدالوهاب محمود. ولكنت ربما تطرقت ساخراً إلى بيانات اللجنة التحضيرية للحوار الوطني والمجلس الأعلى للقاء المشترك المستهجنة لما أسمته بالتصعيد العسكري ضد قوى "الحراك السلمي" في بعض المحافظات الجنوبية. فأحزاب المشترك التي لا ينفك قادتها يحملون السلطات مسؤلية ضبط الانفلات الأمني في هذه المحافظات والذي هو حصيلة الانحراف الجذري للحراك نحو العنف، تكون هي أول من يرفع إصبع الاعتراض. أقول هذا وأنا أدرك جيدا كل تلك البديهيات التي مفادها أن الاعتراف بالقضية الجنوبية والاستماع لقوى الحراك وبسط الأمن من خلال العدالة والرخاء، هي الأشياء الكفيلة بتسوية النزاع في المناطق الجنوبية. بالطبع هذا على المدى البعيد، لكنني حالياً لا أفهم غير الحل الأمني لمواجهة الفوضى المستشرية والعنف بالتزامن مع الحلول الاستراتيجية الأخرى، أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية مستديمة. عدا عن ذلك الفراغ الهائل الممتد بين المعارضة والمؤتمر، فالرئيس يحاول ردم جميع الفجوات في كل مكان. لكن أحدنا لم يسأل نفسه يوما، لماذا لا تكون هذه هي الفجوة التي قد يتحدد -بناءً على ردمها أو تعميقها- مستقبل بلد مُتعَب يرزح تحت وطأة رجال أنانيين وأغبياء.