كل ما هو أساسي يحدث هنا في صنعاء، ثم بطريقة ما يتمظهر على أكثر من مستوى في الأطراف. فالمناخ السياسي السائد بين ما يفترض أنهم شركاء العملية الديمقراطية، يبدو اليوم مشحونا كما لم يكن من قبل. لقد أطلق الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية في الأكاديمية العليا، الاثنين قبل الماضي، النفير في صفوف أحزاب اللقاء المشترك. لكنه بالمقابل أثلج صدور "الصقوريين"-إن جاز التعبير- داخل حزب المؤتمر الشعبي العام وداعب خيلاء أناس يفتقرون للنضج والنزاهة. إلى جانب أمور كثيرة أخرى، ليس جديداً القول بأن للشيخ حميد الأحمر علاقة جوهرية بالتصعيد واللاتوافق التام. هذه مسألة مسلم بها بالتأكيد، حتى إن عبدالوهاب الآنسي، أمين عام الإصلاح، أكدها صراحة في التقرير الذي رفعه، الأحد، لمجلس شورى الحزب، حينما أشار إلى أن الرئيس قال إنه لن يمضي في حوار طالما كانت اللجنة التحضيرية طرفاً فيه.
في الواقع، يصعب الإلمام بالتفاصيل صغيرها وكبيرها. كل شيء هنا يحدث بسرعة مضاعفة، وحينما يتعلق الأمر بالحوار السياسي في اليمن، فالتافه والبسيط هو الذي يتدخل في تغيير مسار الأمور على الدوام. وإذا ما اكتفينا بالوقائع المعلنة، فإن الخطاب المنفعل للرئيس بدا وكأنه مجرد طريقة رئاسية، معهودة طبعا، للرد على البيانين اللذين أصدرهما قبل أسبوعين المجلس الأعلى للقاء المشترك واللجنة التحضيرية للحوار الوطني- واستهجنا فيهما الحملة الأمنية الموسعة التي حركتها السلطات لإخماد الفوضى والاضطرابات في محافظات أبين ولحج والضالع، وأعلنا فيهما عن عزمهما تنظيم اعتصامات احتجاجية في كل المحافظات تضامنا مع سكان المحافظات الجنوبية ورفضا لما أسمياه بالتصعيد العسكري.
على أننا إذا نظرنا إلى البيانين من خارج حسابات المشترك وحلفائه، فبمقدورنا اعتبارهما ضربا من الكيد والشطط السياسي المبين. ذلك أن الظروف الأمنية في الضالع ولحج وأبين، كانت تقتضي من أي سلطة في العالم اتخاذ تدابير أمنية عاجلة للجم ذلك العنف المتعاظم، الذي كان ولا يزال يطال الأبرياء أصلا، وهو المطلب الذي ما فتئ المشترك إياه ينادي به على مدى الشهور الماضية.
لكن، وبصرف النظر عن أي شيء، فللقاء المشترك حساباته البعيدة. ربما كان يرى في مصير الغاضبين الجنوبيين قدره الخاص، مثلما رآه للتو في صعدة. والمؤكد أن قيادات اللقاء المشترك خطر لها كيف أن إيقاف الحرب في الشمال وأي نجاح قد تحرزه أدوات القمع في الجنوب، ربما سيشجعان الرئيس والمؤتمر على التمادي في ترسيخ حالة اللاتوافق السياسي معها ليشق طريقه إلى الانتخابات منفرداً في ظروف هادئة نسبياً، وبالنتيجة إزاحة تكتل المشترك إلى هامش الفعل السياسي دفعة واحدة. وبالطبع فالحملة الأمنية في الجنوب ليست بريئة تماماً. فبمقدورنا أيضاً أن ننظر إليها في إطار الحسابات البسيطة، وأحيانا اللاوطنية، لرجال متعجرفين غلاظ القلب لا يترفعون عن تدمير كل ما لا يمكنهم الاحتفاظ به. فالإعلام الحكومي يقوم بتوظيف الحملة الأمنية سياسياً وسيكولوجيا، بطريقة تفصح عن رغبة لا تقاوم في الظهور بمظهر الذي لا يُقهر.
في أكثر لحظات اللاتوافق قسوة، يذهب الرئيس إلى القوات المسلحة، هناك حيث تتجلى الصورة المثلى التي يحب دائما أن يرى نفسه عليها، بينما يلوذ اللقاء المشترك بلجنة الحوار الوطني وملعب الظرافي إذا لزم الأمر. وأظن أن لا شيء أكثر من هذه الحقيقة وضوحاً، لإثبات كم إن التفاوت لا حدود له بين الكتلتين المتعارضتين والسائرتين، بشكل شبه مؤكد، إلى الاحتكاك وربما التصادم.
عشية خروج قواعد اللقاء المشترك إلى ملعب الظرافي، قرر الحزب الحاكم أنه آن الأوان لاختبار أحد أسلحته الاحتياطية التي يبدو أنه يدخرها لأزمنة "القحط السياسي"، تلك الأوقات العصيبة حيث لا سياسة، وحيث تغدو اللعبة برمتها مفتوحة على أحد هذين الخيارين البدائيين والمريرين: يا قاتل يا مقتول. لقد راح المؤتمر على لسان مصدر مسؤول، يوجه سلسلة تحذيرات عنيفة لكنها تتسم بالخسة والحماقة واللؤم. وهي من قبيل وصف دعوة اللقاء المشترك لتنفيذ الاحتجاجات السلمية بأنها دعوة للعنف والفوضى ولعب بالنار: "إن دعوة المشترك غدا الخميس وما سينتج عنها لن يسأل عنه أحد إلا الداعين إليه باعتبارهم وراء الجريمة وليس البسطاء المغرر بهم الذين انخدعوا بالشعارات المضللة لدعاة الجريمة"، وفقا لتصريح المصدر.
خذوا أيضا هاتين الفقرتين من كلام المصدر المسؤول. الأولى: "إن أحدا في الوطن لن يقبل أو يتقبل من قيادة المشترك الاستمرار في الدعوات الضارة بالأمن والاستقرار والسكينة العامة والمساس بالوحدة الوطنية ومقدرات الوطن ومنجزاته، وإن من حق أجهزة الضبط القضائي المتابعة وضبط دعاة الفتنة وفقاً لقانون العقوبات والجرائم". الثانية: "لقد تبين بوضوح أن برنامج اللقاء المشترك هو قطع الطرقات، وقتل الأنفس البريئة، وإحراق المتاجر، والدعوات الشطرية، والمشاريع الصغيرة والتآمر المستمر على وحدة الوطن ومنجزاته".
أقام اللقاء المشترك فعالياته المنددة ب"التصعيد العسكري" جنوب اليمن، وحضرها آلاف الأشخاص. غير أن البيان الختامي وقع هو الآخر فريسة لردات الفعل، متشنجاً تثويرياً، وغير موضوعي أحيانا. فهو مثلا اعتبر من يقومون بأعمال العنف في المناطق الجنوبية، بالعناصر "المندسة" للإساءة للفعاليات السلمية هناك. وهذه تهمة يلصقها بالسلطة رغم إنه من المتعذر إثباتها.
الراجح أن المشترك استشف من خطابات الرئيس، في الآونة الأخيرة، وتصريحات المصدر المسؤول، تهديداً مبطناً بإلغاء التعددية وحل الأحزاب وإخضاع البلاد لحكم عسكري. لهذا كان البيان الذي أصدره المجلس الأعلى للقاء المشترك في 10 مارس الجاري، عنيفاً بشكل غير مسبوق. لقد كان بمثابة الرد السريع على خطاب الرئيس في الأكاديمية العليا. ففيه تطرق المشترك إلى أن الشرعية مرتبطة بالتعددية السياسية والحزبية، وأن أي مساس بالتعددية السياسية مساسٌ بالشرعية، مجدداً تمسكه بالتداول السلمي للسلطة. البيان أوضح كيف أن "المشاركة في الثروة والسلطة حقٌ لكل مواطن لا تسقطه الخطابات ولا الأكاذيب ولا الدعايات، التي تنزع عن الشعب اليمني الرشادة والفهم".
وفي إشارة ضمنية للرئيس، قال البيان إن اللقاء المشترك إذ يؤمن بأن الديمقراطية تقتضي خضوع من يتحمل السلطة للمساءلة والمقاضاة والمحاكمة، فإن "على الشعب أن يقف بجدية لمساءلة السلطة في القرارات التي اتخذتها، والحروب التي أعلنتها، والثروات التي بددتها، والفساد الذي نشرته، والسيادة التي فرطت فيها، والأرواح التي أزهقتها، والأزمات التي أنتجتها لإدارة البلد بها، والاعتراف بالخطأ لا يكفي بل لابد من تحمل مسؤولية ارتكابه، ومحاسبة مرتكبيه، كون الأخطاء السياسية جرائم في حق الشعوب"، بحسب نص البيان.
يوم الأحد راح المشترك يترجم الفقرة الأخيرة إلى واقع. فلقد أقرت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني تشكيل فريق قانوني لرفع دعوى قضائية ضد "خطابات رئيس الجمهورية"، التي قالت إنه انتهك فيها الدستور والقانون وأضر بمنصب رئيس الجمهورية والمواقع الأولى للمؤسسات الدستورية في النظام السياسي الديمقراطي التعددي. وبغض النظر عن لاجدوى هذه الخطوة، إلا أنها تجيء فقط في سياق النفير العظيم الذي بدأته المعارضة منذ أسبوعين للي ذراع الرئيس وربما تذكيره بأن ثمة الكثير مما تستطيع المعارضة فعله لتصبح إمكانية تخطيها وخوض الانتخابات منفرداً إمكانية معدومة وغير واقعية.
إن لم أكن مخطئاً، فإن ملامح اللحظة السياسية الراهنة تبلورت على هذا الأساس. فإلى الكتلتين الكبيرتين إنما المتفاوتتين جذرياً في الحجم والتصور وقوة الجذب، ثمة كتلتان أخريتان لم تنتظما، والراجح أنهما لن تنتظما أبدا، في فلك أي من تلكما الكتلتين السابقتين، وهما جماعة الحوثي وجانب كبير من فصائل الحراك الجنوبي.
لكن بوسعنا أن نلاحظ أيضا في اللوحة نفسها، ظلالاً داكنة، تظهر بجلاء، مبعثرة هنا وهناك، هي عبارة عن كتل سياسية واجتماعية، أقل شأنا، غير منتظمة الشكل غالبا، بعضها حسم أمره سلفاً وقرر الدوران في فلك واحدة من الكتلتين الكبيرتين، والبعض الآخر اختار أن يخترع لنفسه مداره الخاص، وبينهما جملة لا تحصى من الأجسام، منهم من يقترب من هذه الكتلة في تقاطعات معينة، ويبتعد عنها في بقية الإحداثيات، لكنها إجمالا لا تزال تمثل بؤرة جذب لا يستهان بها، وأكثرها ستجد أن عليها الانتظام في فلك واحدة من الكتلتين الرئيسيتين الأكثر تأثيرا.
وبين هذا وذاك، ثمة أجسام سياسية واجتماعية اختارت الدوران، عن قصد، في فضاء آخر، خارج الحدود، بعد أن تبين لها كم إن الأفلاك الداخلية باهظة الكلفة ونتائجها غير مضمونة. على سبيل المثال، القبائل تتوزع غالبيتها بين مركزي الجذب الرئيسيين، وما تبقى، وهو كثير بالطبع، للحراك الجنوبي منه نصيب لا يستهان به، وللحوثيين نصيب، وللتيه واللاانتماء والضياع كمية لا بأس بها أيضاً.
مع ذلك فبؤرة كل شيء في صنعاء على ما أظن. حتى لو بدت الحقائق على غير هذا النحو، فإنه بموجب النتيجة التي سيؤول إليها الصراع الحاسم، الذي تتبلور بذوره في صنعاء، بين اللقاء المشترك والنظام الحاكم، يتحدد مصير بقية الأجسام السياسية. في صنعاء تفترق المكونات السياسية والاجتماعية إلى معسكرين: الرئيس والجيش والمؤتمر وحلفاؤه، في مواجهة اللقاء المشترك ولجنة الحوار وشركائهما. هناك حركة استقطاب واسعة النطاق. نهاية الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، قرر مجلس التضامن الوطني برئاسة حسين الأحمر وقيادات قبلية رفيعة في الحزب الحاكم، الانضمام إلى اللجنة التحضيرية للحوار الوطني برئاسة باسندوة وحميد الأحمر.
كل معسكر راح يتخذ مواقعه ويعد العدة. ولا بد أن الحراك الجنوبي والحوثيين هما اللذان نستطيع من خلال الوجهة التي سيتخذانها معرفة إلى أي معسكر تميل كفة الميزان في نهاية المطاف. لو تمكن اللقاء المشترك من استمالة واحدة من هاتين القوتين إلى صفه، فسيقلص بالتأكيد من التفاوت الهائل في موازين القوى بينه وبين المؤتمر والجيش. لكن إذا لزم الحوثيون الحياد، وإذا لم يحتفظ الحراك الجنوبي بعنفوانه، فالخسارة تتربص بالمشترك مثلما تتربص بالرئيس وحلفائه.
في المحصلة لن يربح أحد. وستكون اليمن في وضع شبيه بتلك التجربة التاريخية التي خاضتها اسبانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، عندما أسفرت الانتخابات عن فوز الجمهوريين، فانقسمت البلاد، الأمر الذي مهد لحرب أهلية لا مثيل لها، والتي بدورها مهدت للحرب الكبرى. وحينما لاحت إرهاصات الفوضى، وقف رجل يدعى روبيلس رئيس الحزب الكاثوليكي الاسباني في "الكورتيزن"، البرلمان الاسباني، يخطب في زملائه قائلا: "دعونا لا نخدع أنفسنا. إن أي بلد يستطيع أن يعيش في ظل نظام ملكي أو جمهوري، في ظل نظام برلماني أو رئاسي، في ظل نظام شيوعي أو فاشستي. لكن أي بلد لا يستطيع أن يعيش تحت الفوضى. إننا نسير اليوم في جنازة الديمقراطية".
أسأل نفسي، أيوجد أحد في هذا العالم يعمل بمقتضى الشرف والوطنية؟