من اليمين، بل من أقصى اليمين، إلى اليسار، بل أيضاً إلى أقصى اليسار. فعلاً، أدعياء منهم المخادعون ومنهم دون ذلك، وفي كل المجالات. علمانيون لا يحسنون العلمانية، و"متلبرلون" تاهت منهم مبادئ الليبرالية التي آمنوا بها من دون الناس، وأحزاب قامت من أجل الديموقراطية داست بكامل قواها على مفاهيم الديموقراطية، ومناصرو حقوق الإنسان - في ازدواجية المعايير الدولية - لم يعودوا في صف الإنسان سواءً منهم المنظمات التي ألحق بأسمائها لفظ "حقوق الإنسان" أو الأفراد الذين يسمون ناشطون وناشطات.
وفي الطرف الآخر سلفيون لو قام بعض السلف لأبغضهم في الله ولله، وجماعات إسلامية اعتبرت ما تقدمه من أنشطة تربوية وإيمانية لمجموعة من الأفراد هو النصر الحق للإسلام والمسلمين، وأحزاب إسلامية تتأرجح في قيمها الحزبية وولاءات مكوناتها وضعف كوادرها في غياب تام للإنصاف المحلي والإقليمي والدولي.
وفي الوسط حكومات بعضها يدعي الديموقراطية تذبح الديمقراطية كل يوم على أبواب زنازينها، وبعضها يدعي نصرة الإسلام يطعن خاصرة الإسلام، وبعضها كأنها لم توجد إلا للمقاومة وقد غاصت في صلب الخيانة، وبعضها ولدت بوصية الله لتكون حصناً منيعاً لآل محمد.
في واقعنا اليوم دعاوى كثيرة: أنصار لله لا ينصرون الله، ومجاهدون سهامهم ليست في نحور العدو، ومثقفون ليسوا بمثقفين، ودعاة يأكلون باسم الدعوة هم أحوج الناس إلى دعوة، وإعلاميون خانوا مبادئ شرف مهنتهم الإعلامية فضاعت منهم الحقيقة، وفنانون غلبتهم المادة والشهوة عن تقديم فن راق يبني القيم، وقدوة سقط عنها القناع في خذلانها الواضح للإنسانية التي صنعتها كقدوة.
العجيب، حتى أدعياء الإلحاد فينا لا يحسنون الإلحاد، وقد ناقشت بعضهم وعرفت بعضهم عن قرب فلم أجد سوى ناقمين على الأوضاع أو فاشلين أو عاطلين، يهربون إلى أفكار يخيل إليهم أنها التميز والإبداع وما هي إلا الضعف والعجز.
معذرة أيها القارئ الكريم.. ربما تفسر ما سبق على أنه تشاؤم ونظرة سوداء للمجتمع، كلا. لا أراه كذلك، فهؤلاء الأدعياء قليلون في واقعنا، والمخلصون لأفكارهم ومبادئهم كثير، ولكن ظاهرتهم لا بد أن تدرس وتناقش لتسلم مجتمعاتنا من الإفك والنفاق ويتفرغ الناس للإنتاج والعمل.
إن ظاهرة الأدعياء تدليس وتزوير في حياة الأجيال، وخطرها يأتي من وجهين:
أولاً: هذه الظاهرة لا تصيب غالباً إلا نخبة المجتمع، والنخبة في كل مجتمع هي من تتحكم بموارد الناس وأفكارهم في كل المجالات، بل هي غالباً في موضع القرار السياسي والاقتصادي في كل بلد، وقد أدرك ذلك الأستاذ حمادي الجبالي - رئيس الوزراء التونسي السابق - حين قال : نكبتنا في نخبتنا.
ثانياً: قوة هذه الظاهرة اليوم في مقابل ضعف البرامج النافعة والمشاريع المخلصة في المجتمع، بل في زمن يتوارى فيه أصحاب هذه البرامج خوفاً من بطش الأدعياء.
يقول سيد المخلصين: "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور". وكم لبس اليوم أثواب الزور أناس يدعون ما ليس لهم في تعجب واضح للمتنبي إذ قرر:
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص ووا أسفا، كم يظهر النقص فاضل!