لم يكن بمقدور أحد من معارضي السلطة الحاكمة في اليمن أن يفضح عداءها لحرية الصحافة والإعلام بالمستوى الذي فعلته وزارة الإعلام اليمنية، فالإجراء الذي اتخذته يوم الخميس قبل الماضي في مصادرة جهازي البث لقناتي الجزيرة والعربية – ولعل استهداف الثانية كان للتغطية على استهداف الأولى- أوصل رسالة واضحة لقطاعات واسعة من الرأي العام في الداخل والخارج، فحواها، أن ما تزعمه السلطة اليمنية من حريات في هذا البلد هو محض هراء لا قيمة له.. لقد ظلت السلطة الحاكمة، في اليمن تتمتع بهامش مناورة واسع بشأن موقفها من الحريات ومن الديمقراطية، وكان المسؤولون فيها يستدلون بعشرات من أسماء الصحف المستقلة والمعارضة التي تصدر في هذا البلد على الالتزام بحرية التعبير ، ومن دونما تقصد كانت قناة "الجزيرة" التي تبث صوراً مباشرة لبعض الأحداث في اليمن" التي تجتهد السلطة كثيراً في التعتيم عليها، تعطي انطباعاً لا يبارى في تأكيد حرية الإعلام..
بإجراء بسيط نجحت وزارة الإعلام في هدم هذا الانطباع وقدمت دليلاً لا يدحض على محنة الصحافة والإعلام في اليمن وعندما كانت قناة "الجزيرة" تبث الوقائع الحية لمصادرة جهاز بثها من مكتبها في صنعاء من خلال إجراء ارتجالي مزاجي مخالف للقانون، إنما كانت تعيد إلى الأذهان مصداقية الشكاوى المطروحة التي تتهم السلطات بقمع حرية الرأي والتعبير، وملاحقة الصحفيين واختطافهم وإخفاء بعضهم قسرياً كما حدث للصحفي محمد المقالح، والاعتداء عليهم بالضرب وتدبير المحاكمات الكيدية ضد الصحافة والصحفيين والاعتداء بوسائل عسكرية فجة على مقرات الصحف وإغلاقها، كما حدث لصحيفة "الأيام" المستقلة، وقبل ذلك لصحيفة "الشورى" الصادرة عن حزب اتحاد القوى الشعبية المعارض...
لقد ظلت وتيرة القمع ضد الصحافة والصحفيين تتصاعد بدن توقف، كواحد من مظاهر عدة تشير في مجملها إلى أن السلطة الحاكمة تعود بالحياة السياسية في البلاد القهقري، وعندما خامرها الاعتقاد بأنها استكملت عملية استعادة النظام الشطري للجمهورية العربية اليمنية في مرحلة ما قبل الوحدة، اطمأنت إلى فرض السياسات والتوجهات الإعلامية، التي كانت معتمدة في ثمانينات القرن الماضي، وإلى جانبها نفضت الغبار عن طواقم الرقابة على الصحافة وإعادتها إلى العمل مع رمزها القيادي، ومرجعياتها الأمنية، وأساليب عملها البغيضة، وما أن انطلق العهد الشطري البائد في هذا الزمن الجديد، راودت مسؤولي الإعلام رغبة جامحة في كسر رقاب الوسائل الإعلامية المختلفة، بما في ذلك الرقاب الغليظة كفضائية "الجزيرة" التي تحتل الموقع الأول في الإعلام العربي المعاصر..
ظلت "الجزيرة" تغطي الأحداث في اليمن بمهنية وحيادية يبعثان على التقدير والاحترام، وظل مكتبها في صنعاء، عصي على التطويع لخدمة النزوات السياسية الرسمية في هذا البلد، وعندما قام مكتب"الجزيرة" بتغطية الفعاليات الاحتجاجية للقاء المشترك تضامناً مع الحراك السلمي في الجنوب، وتعبيراً عن الرفض للأساليب القمعية التي تستخدمها السلطة ضده، قامت دوائر الرقابة ووزارة الإعلام بتحذير مكتب"الجزيرة" من بث هذه التغطيات ومهدت للإجراءات غير القانونية التي اتخذتها ضد القناة بحملة تحريض مبتذلة، حتى كانت فضيحة مساء يوم الخميس قبل الماضي، عندما بثت القناة الصور الحية للطريقة البربرية التي نفذت بها وزارة الإعلام مصادرة جهاز البث الخاص بمكتب القناة في صنعاء..
كانت أجهزة الرقابة على الصحافة تمارس هذا النوع من البشاعات في ثمانينات القرن الماضي، لكن حقيقة ما تفعله لم يكن معروفاً إلا على نطاق محدود، وكانت الوسائل الإعلامية التي تتعرض لهذا النوع من الأساليب فاقدة للحيلة في التصدي لهذه الأساليب.. لم ينتبه ظلاميو الرقابة على الإعلام بأن الزمن قد تغير، وأن الإعلام العربي اليوم يعيش تاريخ ما بعد ميلاد "الجزيرة" ولسوء حظ أدوات الرقابة، التي حنطت في ثمانينات القرن الماضي، ولم تدخل عليها أية تعديلات تذكر أعلنت مبرراً ساذجاً للإجراء المشين بمصادرة جهاز البث الخاص بالجزيرة، فحواه أن الجهاز غير مرخص له، وأن القانون يعطي الوزارة الحق بمصادرته..
سوء الحظ هنا يكمن في أن قانون الصحافة النافذ صدر قبل أن يكون هذا النوع من الأجهزة قد ظهر، والحديث عن حق قانوني بمصادرته هو محض كذب وافتراء..
بطبيعة الحال عمت الاحتجاجات اليمن، والعالم كله، وتدارك رئيس الجمهورية الوضع بتوجيه وزارة الإعلام إعادة الجهاز إلى أصحابه، أين القانون إذاً؟
لا محل له في القضية من الأساس.. إنها حماقات ليس إلا يقترفها نفر ممن يجلبون العار لليمن.