عقدت الحكومة اجتماعاً استثنائياً الأحد الماضي لتصدر قراراً يمنع استيراد السلع والبضائع من غير بلد المنشأ، ووجهت وزارة المالية بالتنفيذ الفوري، وبالتالي فإن المنافذ ستغلق أبوابها أمام أي سلع ليست مستوردة من بلد المنشأ. ولأن القرار يصب حصرياً في مصلحة الوكلاء التجاريين فإن الحديث عن صفقة بين صانعي القرار وكبار التجار يبدو أمراً وارداً. من اليوم لن ترحب منافذ الاستيراد بالسلع والبضائع القادمة من سوق الخليج أو من أي من البلدان التي اعتاد اليمنيون جلب سلعهم منها ما لم تكن قادمة مباشرة من بلد المنشأ.
ستشهد المنافذ البرية والبحرية ازدحام أسراب من القاطرات والسفن المحملة بسيارات مستعملة قادمة من الخليج أو من أمريكا، وسيجيب المعنيون على مستوردي تلك السلع بأن عليهم أن يعيدوا هذه السلع من حيث أتوا بها أو يتلفوها في البحر، فقرار مجلس الوزراء الصادر في اجتماعه الاستثنائي أمس الأول الأحد قضى بمنع الاستيراد لأي سلعة من غير بلد المنشأ، وشدد على الجهات المعنية، وفي المقدمة وزارة المالية "التطبيق الصارم للقرار، ومنع دخول أي سلعة من غير بلد المنشأ، والعمل على إعادتها أو إتلافها في حال دخولها البلاد".
القرار جاء بعد أربعة أيام فقط من اجتماع مجلس الدفاع الأعلى الذي حث الحكومة على القيام بإصلاحات كثيرة لن ينفذ منها سوى ما يتعلق بإضافة أعباء جديدة على كاهل المواطن. ومن بين ما حث عليه مجلس الدفاع "وضع ضوابط للاستيراد". ومع أن هذه النقطة لم تحظ بتفاصيل كما حظيت بها نقاط أخرى مثل مكافحة التهريب أو إصلاح آليات التحصيل الضريبي، إلا أن الحكومة التقطت الإشارة واضطرت لعقد اجتماع استثنائي، فلا وقت أمامها حتى تنتظر لاجتماعها الاعتيادي الذي يفترض انعقاده اليوم.
القرار صدر بسرعة وسينفذ بشكل أسرع، وهو وضع غير مألوف من قبل الحكومة ما عدا فيما يتعلق بالمواطن.
والمثير للاستغراب اعتبار الحكومة هذا القرار إحدى الإصلاحات المهمة كونه يحد من الاختلال في ميزان المدفوعات، لكن نظرة أعمق لهذا القرار تكشف عن اشتراك كبار الوكلاء التجاريين في صياغة هذا القرار واجتماعات مكثفة من أجل خنق المستهلك وتضييق خياراته ليصبح مجبراً على شراء ما يحتاجه من الوكيل التجاري حصرا، بالسعر المحدد.
صديقي الذي كان ينوي شراء سيارة هونداي "مستعمل نظيف" عن طريق تاجر صغير اعتاد على استيراد كميات منها من أحد الأسواق الخليجية، لن يكون بإمكانه ذلك الآن بعد أن سلمت مفاتيح المنافذ البرية والبحرية والجوية لمجموعة من كبار الوكلاء التجاريين، وسيكون الخيار الوحيد أمامه الاتجاه نحو الوكيل الحصري لهذا النوع من السيارات ليشتريها جديدة وبسعر لن يقدر عليه أصلا.
لو لم أقرأ بنفسي أن هذا القرار صادر عن اجتماع مجلس الوزراء لقلت أنه صادر عن "اتحاد الغرف التجارية" أو "اتحاد الوكلاء التجاريين"، لكن ما دام كبار المسؤولين -مدنيين وعسكريين- هم شركاء لكبار التجار والمستوردين في البلد فلا غرابة أن يكون القرار -المستوحى أصلاً من اجتماع مجلس الدفاع الذي انعقد الأربعاء الماضي– حريصاً على مصالح المستوردين على هذا النحو.
يقال أن القرار آنف الذكر والذي أصاب المستهلكين -المعتمدين على استقدام سلع مستعملة من أسواق الخليج وأمريكا والصين خصوصا فيما يتعلق بالسيارات ومعدات النقل والألكترونيات- بالفجيعة هو بحسب مصادر اقتصادية نتيجة لتفاهمات واتفاقات بين كبار الوكلاء التجاريين وبين مسؤولين كبار يمسكون بملف الاستثمار ومعنيون بتنفيذ إصلاحات عجزت الحكومة عن تنفيذها. وعلاوة على أن الثمن تم دفعه مسبقاً على هيئة شراكات بين الجانبين في مشاريع استثمارية، فإنه جاء كمكافأة لنافذين في السوق التجارية مقابل مبالغ كبيرة دفعوها مساهمة في تمويل حرب صعدة ومواجهة الاحتجاجات في الجنوب.
وأي ثمن سيدفعه أصحاب الوكالات التجارية للنظام، سواء كان نقدياً أو على شكل شراكات مع مسؤولين، فإنه بنظرهم قليل مقابل إغلاق السوق أمام أي سلع قادمة عبر الحدود ما لم تكن عبرهم، خاصة أن السوق اليمنية خلال السنوات الأخيرة شهدت تدفقاً واسعاً لسلع وبضائع مستوردة من أسواق العالم يتمكن المستهلك من الحصول على السلعة التي يريدها مستعملة أو جديدة بفارق سعر كبير مقارنة بما يمكن أن يشتريه من الوكيل.
أن يصدر مثل هذا القرار في توقيت تقل القدرة الشرائية فيه لدى المستهلك، فذلك أمر ليس بصعب أمام ضغط الوكلاء التجاريين الذين يمثلون في الأساس كبار البيوت التجارية.
وإذا ما تابعنا بقية القرارات الصادرة عن المجلس في ذات الجلسة الاستثنائية فإنها كلها تؤكد أنها كانت جلسة مدفوعة الثمن نفذتها الحكومة كاستحقاق لصفقة أبرمت بين صانعي القرار الحقيقيين وكبار البيوت التجارية ليستكملوا السيطرة على السوق.
فالمجلس أقر فرض رسوم إضافية على عدد 71 سلعة وصفها ب"غير أساسية ومن بينها سلع ذات الطابع ترفيهي" وتتراوح هذه النسب الإضافية ما بين 5 - 15 %، وتشمل قائمة السلع المشمولة بهذا الإجراء "السيارات والدراجات النارية والهوائية والسجائر و التبغ والكماليات من عطور ومواد التجميل وحلي الغواية وأصناف الزينة وألعاب الأطفال والأثاث ومواد البناء من الاسمنت والطوب والرخام والصابون وغواسل ومبيدات ومطهرات، وخضر وفواكه طازجة ومعلبة وحبوب ومكسرات وبن ومحضراته، وأجهزة كهربائية والكترونية ومواد غذائية من ألبان وقشطة وعسل وزيوت طبخ وأسماك معلبة وحلويات وبسكويت ومشروبات باستثناء الألبان البودرة ومدخلات الإنتاج الصناعي".
وإذا سلمنا مثلا بأن "الحلي وأصناف الزينة وألعاب الأطفال والتبغ" هي فعلاً سلع كمالية وذات طابع ترفيهي كما ورد في قرار الحكومة، فكيف يمكننا أن نقتنع بأن السيارات والدراجات النارية ومواد البناء والإسمنت والصابون هي أيضاً مواد كمالية واستحقت أن تدخل في السلع المفروض على استيرادها نسب إضافية.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء ليدرك المتابع بأن فرض تلك الرسوم الإضافية على السلع القادمة من الخارج سيرفع سعرها أمام مثيلاتها المحلية، وبذلك تتعزز قدرة السلع المحلية على المنافسة، وهو أمر جيد إذا ما فكرنا أن الهدف من ذلك يصب في مصلحة الاقتصاد الوطني بشكل عام وليس لمصلحة "شلة" على حساب ملايين المستهلكين أتت عليهم الجرع وقضى تراجع العملة على قوتهم الشرائية.
لكن الأمر يكون أهون إذا أثمرت هذه الصفقة تحسن في الإيرادات الضريبية والحد من التهرب والتهريب اللذان تفوق نسبتهما ما يصل إلى الخزينة العامة من ضرائب.
خلاصة الأمر أن مجلس الوزراء وجه وزير المالية إصدار القرارات والأوامر التنفيذية اللازمة بهذا الشأن، أي بشأن منع الاستيراد من غير بلد المنشأ، ولا عزاء لتوجيهات أخرى صدرت عن مجلس الدفاع ذاته وتتعلق بالحد من السفريات والمشاركات الخارجية وتقليص النفقات وغيرها، ولم تلتفت لها الحكومة في اجتماعها الاستثنائي كما لم توجه وزير المالية بالتنفيذ، وبدت هذه التوجيهات كما لو أنها درجة ثانية لا تحمل من القوة ما يمكنها من التحول إلى قرارات عملية.