"أريد أن أشم رائحة أبي.. أريد أن يحضنني مثل بقية الأطفال." بهذه الكلمات البسيطة، تختصر الطفلة شهد المجيدي عشر سنوات من الفقد والانتظار، منذ اختطاف والدها صادق المجيدي على يد جماعة الحوثي في 25 أكتوبر 2015م. وسط مشهد مثقل بالانتهاكات والدمار، تكبر شهد عاما بعد عام، لكنها بلا أب حاضر في حياتها. تعلّمت القراءة والكتابة، لكنها لم تعرف حضن والدها، ولا صوته وهو يناديها كل صباح، ولا حتى رائحته التي تشتاق إليها في صمت لا ينتهي.
كلمات شهد ليست مجرد تعبير عفوي، بل صرخة إنسانية مؤلمة تختزل معاناة آلاف الأطفال في اليمن، ممن غيّبت الحرب آباءهم خلف القضبان أو تحت التراب.
أطفال بلا آباء
قصة شهد ليست حالة فردية، بل تمثّل معاناة آلاف الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة الاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي لأحبّائهم في مناطق سيطرة الحوثيين. هؤلاء الأطفال يكبرون في غياب السند الإنساني الأساسي، بينما تظل صورة الأب مجرّد ذكرى باهتة معلّقة على جدران المنزل.
الغياب الأبوي هنا لا يعني فقط الحرمان من حضن أو كلمة طيبة، بل يعني فقدان الاستقرار النفسي والأسري، والهوية التي يحتاجها الطفل لينمو بثقة وأمان.
ويُعدّ الاختفاء القسري من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان، حيث يُحتجز الشخص دون الإفصاح عن مكانه أو أسباب اعتقاله، ويُمنع من التواصل مع ذويه أو محاميه. ويُصنَّف هذا النوع من الانتهاكات كجريمة ضد الإنسانية إذا تم على نطاق واسع أو بصورة منهجية، وفقًا للقانون الدولي.
في تقرير حديث ل"هيومن رايتس ووتش"، وثّقت المنظمة أن جماعة الحوثيين اعتقلت وأخفت قسريًا عشرات الأشخاص منذ مايو/أيار 2024، من بينهم موظفون في الأممالمتحدة ومنظمات مجتمع مدني.
وأفاد التقرير بأن الجماعة لم تُبلغ عائلات المعتقلين بمكان احتجازهم، ولم يُسمح لأيٍّ منهم بالتواصل مع أسرهم منذ اعتقالهم، في ما يُعدّ شكلًا واضحًا من أشكال الاختفاء القسري.
وأشار التقرير أيضًا إلى أن المعتقلين احتُجزوا "بمعزل عن العالم الخارجي"، دون تمكينهم من الاتصال بمحامين أو ذويهم، وأن العديد منهم حُرم حتى من الحصول على الأدوية الضرورية لحالاتهم الصحية.
الاختفاء القسري لا يصيب المختفي فقط، بل يخلّف وراءه دائرة واسعة من الألم النفسي والاجتماعي تطال الأسرة بأكملها، خصوصًا الأطفال. هؤلاء لا يملكون فرصة لطرح أسئلتهم، ولا صورة واضحة لمستقبلهم، إذ يظلون عالقين بين الذكريات والغياب.
شهد تسأل ببراءة
تظهر شهد في مقطع فيديو انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتساءل بصوت حزين ومقهور: "متى أرى أبي؟ هل يعرف أني كبرت؟ هل لا يزال يفتقدني؟". أسئلة بسيطة في ظاهرها، لكنها تنطوي على عمق نفسي وإنساني، لا تكفي الصور الباهتة أو الوعود المؤجلة للإجابة عنها.
أطفال كُثُر مثل شهد يعيشون في حالة انتظار دائم، لا يطلبون سوى شيء واحد: "أعيدوا لنا آباءنا."، في وطن أنهكته الحرب، لا يقتصر الألم على الجرحى وأسر الشهداء والنازحين، بل يشمل الأطفال الذين كبروا بلا آباء، محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية: الحق في معرفة مصير أحبّائهم، والحق في الحنان الأسري، والحق في التواصل القانوني والإنساني.
حرمان شهد من والدها ليس مجرد حالة فردية، بل مؤشر على أزمة أوسع، حيث يستمر الاختفاء القسري والاحتجاز خارج إطار القانون دون محاسبة أو شفافية، تاركًا خلفه أجيالًا من الأطفال يكبرون بسؤال واحد لا يجدون له جوابًا.