أظهرت المواجهات الخطرة التي شاهدتها عدة مناطق في جنوب اليمن تحديات خطيرة إضافة إلى التحديات الكبيرة التي يعاني منها هذا البلد العريق الأصل ، وتشمل هذه التحديات صراع الخلافات والمنافسات السياسية والنزاعات حول تقسيم الدخل النفطي ، إضافة إلى نمو الحركات الإسلامية المتشددة والصراع مع مجموعة الحوثيين، علاوة على تزايد عمليات القرصنة على مرمى حجر من السواحل اليمنية. وكانت عدة أطراف حذرت من أن يصبح اليمن في عداد الدول الفاشلة خلال العقود القليلة القادمة ، وكان برنامج مؤشرات التنمية البشرية الذي تقوم به الأممالمتحدة قد وضع اليمن في المرتبة 153 من أصل 177 دولة ، كما أن 43% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في حين يقدر معدل دخل الفرد بما بين 650 – 800 دولار سنويا، كذلك تعاني البلاد من ارتفاع عدد السكان وتقلص الموارد وتنامي الحركات المتشددة بما فيها تنظيم "القاعدة" الذي شن عدة عمليات خلال السنوات الأخيرة، كما أن الحكومة وجدت نفسها في السنوات الأخيرة في مواجهة حركة مسلحة بقيادة الشيخ بدر الدين الحوثي ، الذي قُتل في عمليات عسكرية شنتها القوات الحكومية في العام 2004 ، وخلفه في قيادة الحركة عبد الملك الحوثي الذي يتهم الحكومة بالتعاون مع الأمريكيين والصهاينة ، وعلى الرغم من أن هذه الحركة – التي تتألف عناصرها من الزيديين الشيعة – لا تزال محدودة التأثير ، إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أن استمرارها يضعف الحكومة والمؤسسة العسكرية ، وقد جرت محاولات شملت تدخل دولة قطر للعب دور الوسيط ، ولكن لا يبدو أن الأمور قد آلت إلى السلام بين الطرفين .
ولكن الأمر الأخطر الذي حملته المواجهات الأخيرة هو تصاعد السخط الشعبي في بعض المناطق الجنوبية من البلاد ضد الممارسات الحكومية ، حيث تعاني هذه المناطق من نسبة عالية من البطالة ، وكانت نظمت احتجاجات في عام 2007 واتسع نطاقها بصورة أكبر في مارس وأبريل 2008م لتشمل عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين عبروا عن غضبهم من استبعادهم من الوظائف الحكومية ومناصب أخرى وحرمانهم من الخدمات الحكومية إضافة إلى معاناتهم من تزايد نسبة التضخم ، وقد قام المتظاهرون بإحراق بعض مراكز الشرطة وممتلكات الجيش في بلدة الضالع وبلدات أخرى في الجنوب ، وجرى اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين.
ويطالب هؤلاء بالمساواة في الوظائف وبحصة أكبر من خدمات الرعاية الاجتماعية وغيرها ، ويتهمون المسئولين السياسيين بالفساد ، وحملت التطورات الأخيرة التي اتسع نطاقها خلال الأسبوع الماضي أبعاداً جديدة تهدد حلم الوحدة التي دفع اليمنيون في الشمال والجنوب ثمناً باهظاً لتحقيقه ، وأظهرت تطورات الأحداث عمق واتساع الشرخ بين الحكومة وأعداد كبيرة من السكان, الذين بدأ بعضهم يصفون الوضع القائم بأنه "احتلال" ويطالبون ب "الاستقلال "، وتم التعبير عن ذلك صراحة في بعض المنشورات ومدونات الانترنت وقد عكست بعض تصريحات الرئيس اليمني مؤخراً وتصريحات صدرت من بعض قادة المعارضة تحذيرات من مخاطر الانزلاق في حرب أهلية تفضي إلى تفكيك البلاد.
فقد حذر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح , من مخاطر "القاعدة " والحوثيين ، ولمح إلى خطر ما سمي ب "الحراك الجنوبي" الذي يهدف إلى القضاء علي تجربة الوحدة ، كما حذر من تكرار سيناريو العراق والصومال ، وقال "أن من يتوهم بأن الأمر سيقتصر على صيغة الدولتين، إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، إنما هو واهم" .
وعندما يفتح باب التقسيم فإن ذلك قد يستشري من منطقة لأخرى، في مجتمع مسلح توجد فيه تيارات قبلية وأصولية قوية، وفي بيئة من الحرمان والفقر إضافة إلى ضعف الدولة المركزية.
ولا يمكن النظر إلى هذا الوضع بمعزل عن التطورات التي تشهدها عدة دول في المنطقة ، وخاصة في العراق والسودان والصومال، حيث أدت الممارسات الحكومية الخاطئة والتدخلات الخارجية ، وطموحات السياسيين المحليين الضيقة إلى النفخ في بوق الو لاءات الإقليمية والقبلية والجهوية ، وغيرها التي تستغل الواقع الناتج عن تطورات تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية، كانت قد أدت إلى بروز تجربة وثقافة مختلفة في البلد الواحد، وعمقتها هذه الممارسات الخاطئة ، ويعزو بعض المراقبين هذا الشرخ إلى عوامل منها وجود رغبات انفصالية لدى قيادات جنوبية ، غير راضية عن تعامل الحكومة المركزية مع الأوضاع في الجنوب ، أو أن لديها طموحاتها الخاصة ، ولذا يقوم هؤلاء بإشعال جذوة نار الانفصال ، بينما ينسبها آخرون إلى تدخلات خارجية، أو رغبات في الهيمنة على الجنوب من قبل القيادات الشمالية.
ولكن القضية إجمالاً هي أكثر تعقيداً وتشابكاً، ولا يمكن رؤية الوضع بمعزل عن اختلاف التجربة والتاريخ، اللذين مر بهما كل من الشمال والجنوب، فقد استطاع الشمال التمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية تحت راية أئمة آل حميد الدين في وجه المطامع الدولية والإقليمية ، وبرزت عدة انتفاضات ضد الحكم العثماني مكنت اليمن من الخروج من تحت مظلة العثمانيين لفترات مقدرة مستفيدة من الوضع الجغرافي ووعورة المناطق الجبلية ومن الواقع القبلي والمذهبي للحفاظ على استقلالها، بينما وقع الجنوب منذ بداية القرن التاسع عشر تحت السيطرة البريطانية، كما أن الواقع الجغرافي المختلف للجنوب أدى إلى نوع من الانفتاح على الخارج، وإلى هجرة السكان وبروز عقلية تجارية أضعفت الو لاءات القبلية وإن لم تنهها تماما،ً كذلك أدت التجربة الاستعمارية إلى بناء مؤسسات وساهمت في خلق واقع مختلف ، وقد تعزز هذا الاختلاف مع خروج البريطانيين وبروز الجبهة القومية التي سيطرت على مقاليد الحكم في الجنوب بعد مرحلة بزوغ حركات التحرر الوطني ، وقد عززت هذه السلطة ممارسات ورؤى أدت إلى خلق هوية مدنية ، على الرغم من الأخطاء والانقسامات الكبيرة التي وقعت في أوساط الحزب الحاكم.
وعندما أعلن الجنوب استقلاله كان الشمال لا يزال يعاني من معارك بين الملكيين والجمهوريين ومع تفاجئ الجمهوريين بإعلان استقلال الجنوب لم يتمكنوا من القتال على جبهتين، وأيد بعضهم الاعتراف بالحكم في الجنوب، بينما عارض ذلك البعض الآخر، وقد دعا بعض هؤلاء إلى الاعتراف بالجنوب لشعورهم بأنهم في حاجة إليه في حال سقوط النظام الجمهوري في صنعاء، وقد أدت فترة الحكم المستقل التي دامت أكثر من عقدين إلى بروز مؤسسات مجتمع مدني ركزت على المساواة وعلى حقوق العمال والمرأة في الوقت الذي كانت الو لاءات القبلية لا تزال تلعب دوراً بارزاً في الشمال وعندما تحققت الوحدة الاختيارية بين الرئيس الشمالي علي عبد الله صالح والرئيس الجنوبي علي سالم البيض، أصبح شطرا اليمن يمناً واحداً وأصبح علي عبد الله صالح رئيساً لمجلس الرئاسة وعلي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي نائباً له ، ولكن مجموعة من الخلافات برزت بين الجانبين فتوقف "البيض" عن ممارسة مهامه في صنعاء في عام 1993م بعد وقوع محاولات اغتيال لأعضاء في الحزب الاشتراكي اليمني ، تم احتواؤها بتوقيع وثيقة عهد واتفاق في عام 1994م في الأردن ، ولكن الخلافات برزت من جديد في محافظة أبين حيث وقعت مواجهات مسلحة بين القوات الموالية لكل من الطرفين، وتطورت هذه المواجهات إلى حرب شرسة استمرت حوالي شهرين وانتهت بهزيمة الحزب الاشتراكي وتسليم قواته سلاحها ، وتحالف في تلك الحرب الرئيس اليمني علي عبد الله صالح مع المؤتمر القومي للإصلاح وبعض القوى الإسلامية في الشمال والجنوب ، كان من بينها الشيخ طارق الفضلى " الزعيم القبلي الإسلامي المعروف" الذي سبق وأن تحالف مع الرئيس صالح وكان من بين قادة حزب "المؤتمر الشعبي العام" الحاكم وساهم في تنظيم صفوف المقاتلين الإسلاميين للقتال ضد القوات الموالية للحزب الاشتراكي في الجنوب ، ولكن "الفضلى" أعلن قبل أيام اختلافه مع الحكومة في الشمال ودعا إلى استقلال الجنوب. ونتيجة للسياسات التي أدت إلى تفكيك المؤسسات البيروقراطية والعسكرية والأمنية في الجنوب بنهاية الحرب الأهلية، فقدت أعداد كبيرة من الجنوبيين وظائفهم، الأمر الذي أدى إلى مطالبة جنوبية واسعة بتأمين حقوقهم ورواتبهم مع توفير فرص العمل ومع توسع الاحتجاجات أعلنت الحكومة عن تشكيل لجان لدراسة الآثار السلبية التي خلفتها الحرب، إلا أن كثيرين اعتقدوا أن تلك الخطوة لم تؤد إلى نتائج ملموسة، وبدأت اتهامات بعض الجنوبيين للحكومة بأنها حولت الجنوب لساحة تهميش وتجاهل للسكان، كما اعتبر بعض الجنوبيين أن الشماليين في الحكومة حملوا معهم ثقافة وممارسات قبلية رفضها جزء كبير من الجنوبيين، واعتبروها سبباً في فقدان حقوقهم المدنية. وقد قامت الحكومة ببعض الإصلاحات الإدارية، إلا أن بعض الجنوبيين اعتبروها "صورية" أو "متأخرة" و"غير كافية"، إضافة إلى الإجراءات الأمنية والسياسية ، وكان من بين أبرز التحركات الإصلاحية الموافقة على انتخاب محافظين في جميع أنحاء البلاد في محاولة لتهدئة الأوضاع، واستغل بعض المعارضين قرار تأجيل الانتخابات لمدة عامين للتعبير عن معارضتهم للمواقف الحكومية ، ومن جانبها قامت الحكومة بالتواصل مع قادة المعارضة من أحزاب "اللقاء المشترك" لتهدئة الأمور، ولكن برزت تباينات في آراء بعض قادة المعارضة ، حيث أعرب البعض عن معارضتهم للتوجهات الانفصالية ، بينما اعتبر البعض الآخر ما يجري في الجنوب بأنه "خيانة". وقد برزت مؤخراً أصوات تركز على ضرورة الاستقلال وتصف الشمال بأنه "محتل"، علماً بأن علي سالم البيض كان قد دعا في عام 1994م إلى إعادة بناء الوحدة بين شطري اليمن على أسس ديمقراطية وعادلة وقد دعا رئيس المجلس الأعلى لأحزاب المعارضة الممثلة في "اللقاء المشترك" سلطان العتواني إلى رفض التدخل الأجنبي في شؤون البلاد والدخول في حوار وطني شامل يفضي إلى حماية وحدة البلاد وتحقيق إصلاح سياسي ينهي مظاهر العنف ، ولكن ثلاث قوى من الحراك الجنوبي أعلنت تشكيل جبهة متحدة "للنضال السلمي لتحرير واستقلال واستعادة دولة الجنوب" داعية أبناء الجنوب اليمني إلى مساندة هذه الجبهة والانخراط في صفوفها. وقد أثبتت التجارب أن الحروب الأهلية هي أقسى وأشرس أنواع الحروب وأن الجميع يكتوي بنارها ، ولذلك فإن هناك حاجة لترجيح كفة العقل حيث إن الحل يكمن في مشاركة حقيقية تأخذ بعين الاعتبار مصالح كافة الأطراف مع مراعاة الأبعاد الثقافية والاجتماعية السائدة في مختلف أرجاء البلاد. وعلى الصعيد الإقليمي تشكل اضطرابات اليمن مصدر قلق لدى جاراتها التي تخشى أن تصبح اليمن منطلقاً لعناصر تنظيم "القاعدة" الذي يهدف إلى زعزعة الأوضاع في المنطقة ، وتشاطر الولاياتالمتحدة دول المنطقة مخاوفها ، وفي هذا الصدد أبلغ الجنرال ديفيد بترايوس "قائد القيادة الوسطى الأمريكية الكونغرس الأمريكي" في أبريل المنصرم أن أي ضعف يعتري الحكومة اليمنية يسهم في توفير ملاذ آمن لتنظيم "القاعدة"، وأن "الجماعات الإرهابية يمكن أن تهدد جارات اليمن، وخاصة المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج." كذلك تشعر الولاياتالمتحدة وحليفاتها بالقلق من النشاط المتزايد للمقاتلين من بعض الشبكات الإرهابية التي بدأت تستجمع قواها على أراضي الصومال قبالة اليمن الذي يتميز بموقعه الاستراتيجي الذي يمكن أن تستفيد منه تلك الجماعات. فهل يستطيع جيران اليمن والمجتمع الدولي لعب دور في المساعدة على إنقاذ اليمن من هذا المأزق الخطير عبر دعم التنمية الحقيقية التي يستفيد منها جميع المواطنين ؟.
* أستاذ في الجامعة الأمريكية بواشنطن - مجلة المجلة