لقد قلت من قبل أن السلطة أو النظام هو من يصنع الأغلبية في العالم العربي وليس العكس، وأن السلطة وهي تمتلك المال العام ومقدرات الدولة وخزائنها تستطيع أن تجيش ورائها غالبية الشعب فكرياً وسياسياً، وأنها بهذه المقدرات تستطيع أن تحدث حراكاً ثقافياً يخدم مصالحها الحزبية والسياسية والتي تهدف في كثير من الأحيان إلى ترسيخ مذهبها ونهجها وطريقتها في الحكم والإدارة، حيث تعتبر هذه السلطة أن هذا الحراك ضرورياً من أجل بقائها واستمرارها الضروري والذي يخدم مصالح البلد العليا، حيث هذا الحراك الثقافي التي تصنعه ترسخ من خلاله في الأذهان أن فكرها هو الصواب وأن حراكها هو الحراك الذي يصب في الصالح العام، وأن مذهبها هو من خيرة المذاهب وأن برنامجها السياسي هو أفضل البرامج القابلة للتحقيق، فتضل تجيش الناس تارة بمدح القائد وتارة بمدح الدولة والتي تعني القائد بالضرورة وتارة بالأناشيد التي تروق لنا والصور التي تصحبها كلوحات فنية بديعة، حيث أن الحراك الثقافي من هذا الطراز السائد في كل بلداننا العربية هو حراك ثقافي زائل بزوال المؤثر قابل للتغيير والطرق والسحب مع انتهاء الزعيم أو نظامه، وهذا باعتقادي لا يعد حراكاً ثقافياً وإن بدا بل حراكاً تعبوياً يخضع لاعتبارات أخرى كالمال والمصلحة والمنصب والقرب والبعد وإعلان الولاء. الحراك ا لثقافي السلطوي لا يدعم سوى الأتباع ولا ينمي سوى الشجرة المائلة، ويعلن التمييز بين أبناء الشعب الواحد على أساس الثقافة والفكر والرأي، معلناً باستمرار أن الاختلاف لا يجب أن يكون بشخص الحاكم أو طريقة حكمة، نظامه أو منهجه، وإنما الاختلاف لا يكون إلا بين الإخوان والسلف حول اللحية والشارب أو الثوب والبنطال، وبين المثقفين والعلماء حول زواج الصغيرات وغيرها في عودة إلى عصور الجهل والتخلف، والاختلاف الأول يجب أن يخمد والثاني يجب أن ينمى في سياسة باعتقادي ليست مدروسة ولكنها مرغوبة.
ولأن مقدرات الدولة كثيرة ومواردها لا حدود لها فإنها لا تصنع حراكاً ثقافياً بإرادتها وإن كانت الآن تنشئ الكثير من الجمعيات والمؤسسات ابتداء مما تشرف عليه وزارة الإعلام إلى ما تنشئه وزارة الأوقاف إلى لجان المشكلة للدفاع عن الوحدة وللدفاع عن الثورة ولمكافحة ووو.. الخ، كل هذه لجان يراد منها أن تحدث حراكاً ثقافياً يسهم في تطوير هذا المجتمع وإعلاء شأنه ثقافياً وفكرياً وهي باعتقادي طالما تجنبت الكره والحقد على الآخر، وتجنبت الفتوى والعداء للآخر وتجنبت لغة الشتم والسب والتخوين فهي تعتبر حراكاً ثقافياً مطلوباً وإن بدى أنه يصب في صالح الحاكم ونظامه لكن المراحل العمرية التي يمر بها الفرد وقد ترسخت فيه هذه الثقافة أو تلك تجعله يعرف الكثير عن الثقافة المختلفة معه رغبة منه في إحداث ثورة مضادة فكرية وثقافية للمشاركة في نقاشات حادة في مقهى أو مجلس أو دار ثقافي أو تجمع، وإن كانت هذه الرغبة مطلوبة لدى كثيرين وتصب في صالح الأيدلوجي إلا أنها تضع باستمرار الأسئلة الشائكة وتحاول الإجابة عليها مما يحدث في الأصل تمرداً كبيراً لدى الشخصية على فكره الذي تربى عليه في مسجده أو مدرسته أو مقراته التابعة للحزب أو التنظيم أو المقر السياسي، هذا التمرد يعلن عن نفسه متى ما بدأ الإنسان يشعر أن ثقافته التي تربى عليها لم تعد تشبع رغباته ولا تشبع طموحاته وفكره الذي يجب أن يكون كما أنها لا تلبي طموحه الذي يرغب في الوصول إليه ولذلك تحول كثير من الاشتراكي إلى مؤتمر وتخلى عن فكر كان يعتنقه بقناعة تامة وتخلى كثير من الأعضاء عن الإصلاح مع أن هناك من يعتبر أنه الحزب الأكثر تحصين تنظيمياً، وخرج الكثير من المؤتمر رغم أنه ما زال يحكم البلد، هذا الخروج مرات ليس بدافع المصلحة رغم أن الكثيرين يسعون إلى إشباع رغباتهم عن طريق الممارسة السياسية، لكن الخروج أحياناً يكون بدافع أكبر من ذلك وهي الرغبة في التحرر من الإيديولوجي وتجاوز هذه المرحلة التعبوية من جانب واحد بدافع الفضول وبدافع الواقع الذي يفرض عليك رؤى مختلفة للتغيير.
ما يزيدنا تعجباً وتفكراً في حراك السلطة الثقافي والسياسي هو أن تخرج السلطة بالمظاهرات لتحذر من الفساد "المشتركي" والفساد "الحراكي الجنوبي والصعدوي الشمالي"، وقد خرجت وقد جيشت لها الكثير من الموظفين والطلاب في حراكاً سياسياً بامتياز يغلبه التهديد والوعيد، وتحولت السلطة إلى المعارضة والمعارضة إلى منافقين ودجالين وخارجين على القانون والثوابت، والجماهير كما يبدو أنها تشبه الرعاع بحسب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وصيته لكميل بن زياد تتحرك مع هذا ومع ذاك ومن حضر من الجماهير مع المشترك مناصراً للمشترك خرج مع النظام ليعلن تأييده له وسبه لنفسه بأنه من المنافقين والدجالين بسبب الخروج الأول، وأنا أكتب هذه السطور تذكرت المهندس فيصل بن شملان رحمه الله عندما زار إب في حملته الانتخابية وتجمع الناس لمناصرته من كل حدب وصوب مما أعجزه عن الحديث حتى ظننا وقتها أن إب كلها قد شاركت معه المهرجان وأعلنت نكرانها لرئيسها ولصاحب اللوحات التي تملأ شوارعها، وما إن حضر إليها الرئيس الصالح حتى أصيب رحمه الله بالإحباط فكثير ممن خرج ليناصره خرجوا ليناصروا الرئيس الصالح وأثبتوا الولاء وعمدوه بدمائهم فكتب للأخير النصر، مما يوحي بأن السلطة لا زالت تملك الكثير من الأوراق، ولا زالت رغم المعاناة التي يعيشها الشعب اليمني قادرة على إخراجهم للشوارع مع مثقفيهم مع مشائخهم مع موظفيهم مع أرقى طبقات المجتمع ثقافة وفكراً وهم يهتفون بحياة الحزب الحاكم ويلقون بالتهم على المشترك حيث أنه العائق الوحيد أمام تقدم السلطة وأمام انتصارها على الغلاء وعلى ما تبقى من متمردي صعدة وعلى ما يسمى بالحراك الجنوبي وعلى الإرهاب ، وأنه العائق الكبير أمام إصلاحات السلطة السياسية والاقتصادية، ولذلك يتجه حراك السلطة الثقافي والسياسي لمحاولة تشويه المشترك باعتباره الآن قوة لا يستهان بها في البلاد، وقوة قادرة على إخراج الناس إلى الشارع ليعبروا عن معاناتهم وآلامهم.
حراك السلطة يتجه بطريقة ساخرة وشامته مرات كتشكيل اللجان للدفاع عن الوحدة وبطريقة شبه همجية كاعتقال المتظاهرين وتهديدهم ومحاولة إثنائهم عن النضال وإلجائهم إلى طرق أخرى لا يرتضيها النظام وإن كان هو السبب الأول في ممارستها على ارض الواقع حتى يدفع الكثير بالخروج عن نطاقهم ليكون مبرراً للسلطة لزجهم في السجون.
الحراك السلطوي الثقافي باعتقادي لا يخدم المصالح العليا للبلد بل يتفنن باستمرار في تلميع الشخصيات وعرض المنجزات ومدح القيادات وإخراج الكتيبات وتشويه الآخر المختلف معه فكريا ًوسياسياً .كما أنه بكل ما يمتلك من مقدرات لم يستطع أو لا يريد أن يرقى بشخصية الأتباع إلى مستوى الفهم للممارسة السياسية بدون تجريح أو سب أو شتم أو اتهام.
إن من يمارس العمل السياسي مستخدماً هذه الأساليب أياً كان حزبه فإنه لا يعمل على ترسيخ العمل الديمقراطي بل يقود إلى العمل الانتقامي، لأنها غالباً ما تقود الكثير لاستخدام مبدأ نيوتن في الحركة "لكل فعل رد فعل".