حين يصبح الواقع جزءاً لا يتجزأ من إنسداد الأمل، يصبح الحديث أو التوق إلى وطن «عادي جداً» ضرباً من الحلم السابح في آفاق المثالية الغير واقعية... بل يصير السعي نحو نهضة أو تغيير إيجابي مستحيلاً ودرباً من دروب الخيال. - حتى لحظات استذكار مستقبله باتت تولّد كآبة لا تبلغها الكلمات... كتلك التي يحدثها فقدان الأحبة. وفي كلام يضخ دماء الغضب والثورة في عروق الباحثين عن مكامن الإقلاع الإقتصادي والمجد لليمن... اليوم نتطرق إلى موضوع في غاية الجد ولامكان فيه للهزل... وما نقوله ليس من قبيل النكاية... أو التنفيس عما بالنفس من هم وغم تأتي به رياح الوطن عبر الأثير. ... بل قد يكون فسحة لقراءة ما بعد علامات الإستفهام حول ذلك السعي المريب للزج بالكفاءات في مشروع تهجير للخبرات من اليمن، حيث أصبحت الشهادات لازمة للهجرة والمنفى... فالكفاءة والخِبرة في اليمن أضحت كحقائب السفر تدل على الرحيل. ولكي لا تبقى الهجرة طقساً مأساوياً تراجيدياً يمنياً بعلامة مسجلة... يجب أن نسأل ماذا فعله هؤلاء المنكوبون من أصحاب المعرفة النفعية؟... وعن ذلك التواطؤ الذي يسعى لمنعهم من البقاء والإبداع والإنتاج والعيش والحياة الكريمة في المكان الحقيقي الوحيد لهم: الوطن؟... وكيف علينا أن نفكر في ظروف هذه الخسارة؟... والتي تتم بشكل مريب، أشبه مايكون بتلك العمليات السرية لنقل يهود "الفلاشا". بالتأكيد، لن نستطيع اليوم تقليب مواجع كل أولئك الراحلون رغماً عنهم، والمحملون بعبء روحي شديد الوطأة، ذلك الشعور المسكون أبداً بعاطفة ورائحة الوطن الأم وتباريحه... حيث لايمكن للوطن أن يتحول إلى مجاز وتاريخه إلى إنطباع عند أولئك الذين يَرحلون ويُرحلّون عن الوطن حتى من دون وداع. لذا، أدعوكم اليوم للتعرف على شخصية فذة لا يسبق اسمها تلك "الدال والنقطة" التي لا يحتاج إليها، لأن علم الرجل يسبقها ولا تسبقه، - وأي صفة علمية يشرفها أن تلصق بإسمه، لأنه هو الذي يرفع من قدرها وقيمتها وهامتها، وليست هي التي ترفع من قدره أو قيمته. في وطن أعمى لايرى سوى ذلك الهلال البعيد الدال على دورة الأشهر، يكاد المرء أن يصاب بصدمة وهو لايصدق حواسه عندما يعلم بأن أحد أبرز مبدعي اليمن بلا منازع، لجأ مؤخراً وتحت وطأة الحاجة ليعمل مدرساً في جامعة صينية نائية، ذلك المبدع الذي قد يجهله البعض، لكننا جميعاً كأهل معرفة وخبره نعترف به عبر عقود من عطائه العلمي المخلص والمدقق والشجاع. ذلك هو عزيز النفس، وأحد الأعزاء على قلب كل يمني عرفه، الأستاذ القدير والعالم عن جدارة/ هلال أحمد سعيد الخيواني، المبحر بإتقان في عمق طيف هام من العلوم العصرية الحديثة، والذي تمكن بإعجاز مبهر من صهر وصب تلك المعرفة في بوتقة قالب واحد... وذلك ما يمكنني التعريف به في هذا الحيز الصغير وبإختصار... حيث لن أستطيع الذهاب هنا كثيراً لتبيان عظمة الرجل، أو أخلاقه الرفيعة، أو شرح مناقب تلك العبقرية العلمية التي لاتبرح أن تتفتق بما لم يأتي به الأوائل، فالمقام هنا لا يتسع. في هذا الليل اليمني البهيم، كان ولايزال هلال الخيواني بارقة أمل في سمآء اليمن الملبدة بالسواد، عالم تقني ولغوي بارع، يفقه العلوم الحديثة وينبذ خبائث السياسة، وهو - كأمثاله من أصحاب المعرفة التقنية الغير مسبوقة - بإمكانه أن يجلب للبلاد وللأجيال منافع علمية وإقتصادية... طبعاً، منافع وإنجازات غير تلك الأنواع التي يجلبها لنا المئات وربما الآلاف من حاملي البنادق ، أو أصحاب الرتب العسكرية، أو مشائخ الموالاة، أو بعض من يُسبغ عليهم مجازاً صفة "العلماء" وفقهآء السلطان، ممن لا يألون جهداً في إغراقنا بالظلام، وإهالة أسوأ ما في ركام ونفايات الماضي من خرافات وتخلف فوق رؤوسنا. - بل يحق لي أن أزعم - مجازاً - أن أعمال هلال العلمية من حيث المضمون، لو علم بها مجموعة من أشد المتخلفين عقلياً لربما عاد إليهم الرشد... ولتنبهوا... وتألموا... وأستنكروا فداحة تخلفنا وتخلف القائمين على مصير بلادنا، وبلادتنا! هلال، كما غيره، ربما يعيش على أمل العودة ثانية إلى وطنه، يتصور كما البعض أن هجرته قريبة أو مؤقتة، والمسكين لا يعرف أنها قد تكون الأخيرة، ربما لاعودة منها، بل الرحيل إلى الأبد... إنها النفي بعينه... حيث يبقى السؤال، هل هناك بعد أقبية المعتقلات والسجون المظلمة عقوبة أشد من النفي؟... - وسوف يبقى ذلك السؤال حياً وقائماً مابقى الوطن. - قد يكون عزآء هلال وأمثاله من المهاجرين والمهجرين واولئك المنفيين بالتتابع إلى بلدان كثيرة، أن الذي بقى في اليمن، يحيا مثلهم ذات الإحساس بالغربة والعزلة، بل والعوز والتشرد، ولو على نحو آخر. وطبعاً لن أشطح بعيداً فأدعو اليمن لتبادل الدور مع اسرائيل التي تستقطب مواطنيها من لقطاء الشتات، ومن كل حدب وصوب، لكني على الأقل لم أحلم بشيء مثل أمنية أن أرى تلك العبقرية العلمية ل "هلال اليمن" وهو يتمكن بجهاده وأعماله الجليلة التي يقدمها للوطن والأمة، من انتزاع مكانة مرموقة بين عظماء التاريخ المعاصر، غير أنه في وطنه الأصلي، كغيره من صناع الحياة، لم يحظ الرجل أو أي من أعماله بما هم أهل له. ما لايمكن أن نقبله، ولا يجوز لهذا الشعب أن يقبله، هو قرارات تهجير مشبوهة، تلك التي تحاك من دون معرفة أبعادها، حيث لايجوز ان يُأخذ بها من دون فحص أو تمحيص. ولأن الإنسان لا يخفي ما يفخر به وإنما ما يخجل منه، على دولتنا الموقرة أن تقول لنا "بالفم المليان" ماهي مواصفات تلك الحركات البهلوانية التي تدفع في إتجاه تعليب وشحن وتشتيت تلك النسبة الشحيحة من خبراتنا إلى دول الجوار وبقية أصقاع الأرض، - فما هو معروف سلفاً أن الإجتهاد في قلب وإخفاء الحقائق هو أوضح اعتراف من أهل الشأن بخطأ مايأتون به وخطيئة مايقترفونه. وعلى هذا النظام إستيعاب حقيقة أن قطاعات كبيرة لم تعد تقبل بإستمرار عزفه على وتر "الفقر" بعد كل فشل يرتكبه... حيث أن مجرد ذكر تلك الكلمة أو مرادفاتها يعتبر تنصلاً واضحاً من المسؤولية التي تقع على عاتقه... - فالحكم الذي لا يضطلع منهجياً بوظيفة التثقيف بالمعنى الإحترافي الذي يعانق قضايا الإنتاج والصناعة والزراعة والتجارة والعلوم المعرفية والفنون في أبعادها الضرورية والحضارية والإنسانية والتنويرية، هو نظام منتج "للفقر"، وهو "الفقر" بعينه. إن أولئك السابحين في أفلاك أبراجهم العاجية قد لا يعرفون، - وربما لن يعرفوا -، أن الوعي السياسي للمواطن قد تطور ونضج على نحو كبير، وأن الذكاء والفطنة التي يملكهما يحولان دون تصديقه الساذج بالفذلكة المتعرجة وبالغموض المتموج... فالعُصب التي غطت عيناه ردحاً من الزمن قد أزيحت إلى غير رجعة... ولا يمكن بعد اليوم أن تنطلي عليه ألاعيب المقالب التي يريدوا أن يدخلوا بها الى عقله. ... إكليشيهات كذب مصطنعة الغرض منها أن تتحول تدريجياً الى شبه حقائق، لتأصيل التدهور والإنحطاط في الوعي وفي الوجدان، كالبث في العقول بأنه لا سبيل للعمل والعيش إلاّ بالتخلى عن الوطن، مع الإحتفاظ ببعض الرهائن من أهالي المغتربين لضمان تدفق تحويلاتهم المالية... أو القول بأن اليمني غير قادر على العطاء والإنتاج إلاّ في غير وطنه... متناسين ان أمم فقيرة عديدة انطلقت حتى وهي تفتقر إلى الموارد والمواد الأساسية من الخامات، لم تثبط عزائمهم، قرروا فنهضوا، والبعض انطلق بدءاً من صنع قصاصات الورق ولعب الأطفال. تلك هي البراعة في قيادة الأمم، وعلى رأي الدكتور مروان الغفوري "الشاطرة تغزل برجْل حِمَار"، وها هي أمثلة القيادات الحية ماثلة للعيان... نجاحات اسطورية باهرة لبلدان قررت أن تطلق المارد من القمقم فحققت المعجزات في فترات وجيزة، بسبب نعمة تسليم زمام قيادة شعوبها لعناصر متفانية ذات مشاريع ورؤى وطنية، أستطاعت انتشال مجتمعاتها من بؤس الفقر والإنتقال بشعوبها في غضون أقل من عشرين سنة بمجموعاتهم المكونة من قوميات متشرذمة متفككة، إلى مجتمعات موحدة قوية ومتلاحمة، لها إقتصاداتها وعلومها وصناعاتها وفكرها وتكافلها الإجتماعى. بشر مثلنا، نعيش معهم نحن ونشاركهم كل الصفات الإنسانية المشتركة، ويشاركوننا نفس المشاكل التي لايخلو منها مجتمع بشكل أو بآخر... نجحوا لأنهم أرادوا... قرروا... ثم بدأوا بالنحت بأظافرهم من الصفر وصولاً إلى دول مستقلة حقاً، تحقق فوائض إقتصادية وجيوش نظامية غير متخمة تساهم في البنآء والإعمار... أنظمة تستحق بجدارة ان تحترم، ومع ذلك لا تقدس، بل يخضع أكبر رأس فيها للمسآءلة والمحاسبة على أخطائه، مما أفضى إلى شعوب تعتمد فى بقائها وقوتها على قواعدها الذاتية وإقتصاداتها المنتجة، لا على التسول وإستجدآء فتات من الصدقات الذي بالكاد يسد رمق المصروفات النثرية لعملية الإستجداء ذاتها. اليمن، الذي حُوّل إلى حماراً هرماً تعاقبت عليه الركوبات والأحمال والرفس والأسفار... هاهو لايزال بعد نصف قرن في قيلولته قابعاً عند محطة الإنتظار أو بالتعبير العسكري الذي لم يتقن النظام سواه "مكانك سر"… أجيال هرمت وانقرضت، وأخرى تعاقبت... وحتى الآن لم تعي قيادته بعد بأن الإنسان ثم الإنسان ثم الإنسان، ثم الإنتاج وزيادة الإنتاج ومضاعفة الإنتاج هما اكسيرا النهضة وبلسم جراح الفقر. - صحيح، المسيح عليه السلام شفى الأعمى والأبرص بل وأحيا الموتى بإذن الله، لكنه عجز عن علاج الحمقى وعساكر الرومان.