الكهرباء بعيدة المنال في هذه الساعة من الليل. لم يحدُث أن استسغت الطلّة التي يمتاز بها السيد السقطري، وزير الكهرباء. أقيل الدكتور بهران لأنه ورط السيد الرئيس في تصريح، حول الكهرباء بالطاقة النووية، أثار عليه أغبرة الدنيا السبعة. لم يُقل السقطري من منصبه بالرغم من أنه ورّط الرئيس في تصريح مشابه حول المحطة الغازيّة وكهرباء "يوليو 2009"، لكن الأغبرة السبعة لم تثر مجتمعة. نحنُ، مثلاً، على بعد ثلاثين خطوة من يوليو 2010! الأخ السقطري ليس موضوعنا الآن، فمعاليه حفظه الله مالوش دعوة بالليلة كلها. لبسها بالغلط، الله يكون في عونه بس. يفترض أن أكتب مقالاً أسبوعيّاً ل"المصدر". شحن اللاب توب ينزف آخر قطرة طاقة والكهرباء مقطوعة من شجرة. الصديق محمود ياسين يهاتفني منذ قليل. تحدثنا عن العدد الأخير من مجلة "صيف"، التي يرأس تحريرها. قلت له: الترجمة زايدة حبّة. قال بثقة: زايدة حبتين، بس بصراحة مواد تستحق القراءة. وافقته، وطلبت منه التعليق على مقال لي حول الانهيارات المتشابهة للكون والدول، من المتوقع أن ينشر في العدد القادم من صيف. أثناء "الغُدرة" أفكر في الماضي فقط، بأشياء تخص الماضي وبلا ترتيب وفي الغالب دون مبرّرات منهجية أو حتى سيكولوجية.
لا أزال في الظلام. زوجتي، الشاعرة الفلسطينية ساره رشاد، تهتف: هييييه أخيراً انتهيتُ من كتاب "العقل السياسي العربي" للجابري. مبروك، قلتُها بحقد. الظلام خانق والشمعة لا تساعدني سوى على التذكر. سمير جبران يبدد الظلام عبر الهاتف. كيفك مروان، إيش تفعل؟ الحمد لله، بقرأ. يضحك بصوت مرتفع: ذكرتني بنكتة شهيرة. النكتة قديمة، لكن سمير غالباً ما يتحمّس للنكت القديمة كما لو أنه يسمعها لأول مرة. سمعتُ ذات مرّة أن سمير يحرص على أن تصله النكتة بصورة متأخرة. لا أملك تفسيراً للأمر، لكني متأكد أن العزيز راجح بادي بمستطاعه اقتراح أكثر من عشرة تفسيرات. هذه المرّة: يرن الهاتف. الصديق علي الفقيه، رئيس التحرير، يطمئن على مقالة الأسبوع. الأصدقاء يتوافدون في الظلام، هذا ليس عنواناً لرواية كلاسيكية. قلت له: أفكر في نشر نص شعري بعنوان "لشمسك العظيمة أعود". تفاجأ بعمق، حدثني عن الجمهور الجديد الذي لم يعد يحفل للنص الشعري. لكنه، في الأخير، وعدني بأنه سيبحث عن مساحة بجوار إعلانات الصفحة قبل الأخيرة لكي يدس فيها القصيدة. سيدسها، بعيداً عن العيون كما لو أنها "عملٌ غير صالح". لعلّي أخبرته أني سمعتُ المعنى ذاته من صديقنا عبد الحكيم هلال، وربما في المحصلة: لم أتحمس لنشر النص الشعري بجوار الترسانة المخيفة من المحتوى السياسي الأسبوعي ل"المصدر". وبالمناسبة: يتمتع الصديق هلال بوجدان رائع، ومزاج تحليلي أنيق. فهو "مش بسيط" على حد تعبير أحمد الشلفي. أضاف الشلفي، ونحن في السيرة الهلالية قبل أيام: خلي بالك، عبد الحكيم هلال كان الطاهش حق حارة الضبوعة في تعِز.
لم يتحمّس الصديقان، الفقيه وهلال، لنشر النص الشعري في "المصدر". أيضاً: مجلة "صيف" تضيق الخناق على النصوص الشعرية، وتقريباً كل الصحف اليمنية لا ترحّب بالنص الشعري (باستثناء صحيفة "الثوري" التي لا تزال تنشر نصوصاً لإيمان مرسال، أصبحت طبقاً للمزاج الكتابي الأكثر جدّة: نصوصاً كلاسيكية مملة). الصديق أحمد السلامي لا يفتح إيميله إلا بعد أن تنقطع العلاقة الوجدانية بين النص وكاتبه. في تلك الساعة من العُمر يمكن أن ترى نصك في واجهة عناوين ثقافية. هل يوجد مكان آخر لنشر النص الشعري في اليمن؟ الملحق الثقافي لصحيفة "الثورة" ابن حلال، بالطبع. إنه يبدو كما لو أنه يقول الشيءَ ذاته عبر الماكنات البشرية ذاتها منذ تقرّر أن يكون ملحقاً. قبل أربع سنوات تواصلتُ، عبر الفاكس، مع ملحق "الثورة" من خلال نص بعنوان : دع اسم جدّك لهُم. كتبت على رأس الصفحة: عناية الشاعر الكبير جميل مفرّح. لم أكن قد قرأت للأخ جميل أي نص شعري من قبل، ومع ذلك فإن النص الذي أرسلته لم يُنشر. في جلسة ودّية قبل أكثر من عام قال لي الشاعر المصري عاطف عبد العزيز: لو وصفت الشاعر حسن طلب ب "الشاعر الكبير" ولم تقل : الكبير جدّاً، فيا ويلك! تذكرتُ الفاكس الذي أرسلته إلى الملحق الثقافي لصحيفة "الثورة". للأسباني الساحر خوان مياس نصّ روائي بعنوان: باولا وخوليو، يتساءل فيه عن متلازمة عابرة للحدود: الكاتب الكبير الذي لم يكتب شيئاً. ثمّة نكتة عبقرية يرددها العزيز راجح بادي باستمرار: يقول فيلسوف سوداني مرموق "ما أجمل أن لا تفعل شيئاً ثم ترتاح قليلاً".
بمناسبة النص المشار إليه، "لشمسك العظيمة أعود"، فقد نشرته قبل أيّام في موقع ثقافي خليجي لأكتشف أن مواطناً عمانياً تصرّف معه بطريقة عجيبة للغاية: أعاد نشر النص في مدونته، وقدّم له بطريقة سلفية فارعة الطول. كانت المقدمة تدور حول شمس الغفوري وشمس الأندلسيين، أو هكذا فهمتُ. في السياق العام حمّل نصي "المبتذل" كل تلك الأسباب التي أدت إلى انهيار شمس الله في الأندلس. بصعوبة استطعتُ أن أفهم أن المقصود هو هزيمة المعتمد بن عبّاد وليس " غوارديولا" مدرب البرشه! بمناسبة كرة القدم: كان الصديق راجح بادي يتحدث باندهاش واسع حول أمر ما. إذ يبدو أنه بينما كان يستمع لحزمة أخبار محلية عبر قناة "سُهيل" سمع مقدم البرنامج يقرأ خبراً حول تأهل "منتخبي" شباب البيضاء ومعرفش مين إلى مدري فين. يبدو أن معد الخبر لم يعرف بعد الفرق بين المنتخب والفريق، فتعامل مع نادي شباب البيضاء كما لو أن البيضاء فعلاً هي "جمهورية البيضاءالمتحدة" كما وصفها حسين اللسواس في مقاله المشؤوم.
بمناسبة الشعر: حين قدّمتُ مسوّدة عملي الشعري "في انتظار نبوءة يثرب" إلى الدكتور فارس السقاف، قبل أربع سنوات بالضبط، سألني: سأفهم أن النص ابتعد تماماً عن الذوات الثلاث: الإلهية والرئاسية والوطنية. قلتُ له: لا تقلق، النص لا علاقة له بالذوات الثلاث: الرئاسية والإلهية والوطنية. اعترضني بأصبعه السبابة: لا تحرّف كلامي أرجوك، أنا ابتدأت بالذات الإلهية أولاً. نشر النص على هيئة مطبوعة جميلة لكن فونت الكتابة أصابني بخيبة محرقة، حتى الساعة. وعندما استلمت النسخ الخاصة بي قمت بتوزيعها على الأصدقاء في الصحف والمجلات، بالمجّان. لم يتطوّع أحدٌ حتى لمجرّد الإشارة إلى صدور الكتاب. هذه بلدةٌ ميْتةٌ، وبالطبع فإن لها رباً غفوراً. لم أستسلم لهذه الحتمية، فقرّرتُ أن أكتب عن عناصر الإبداع في نصوصي الشعرية. على حد علمي فإن أحداً لم يسبقني إلى هذه المجازفة، لكنني لا أزال أشعر إلى هذه الساعة بعد الإصدار الرابع أني بحاجة إلى سلوك كهذا طالما وأنا تحاصرني مقولة الشاعر اليوناني العظيم باندار: من الطبيعي أن تفوز بالتحكيم الشعري (في الواقع: مكاسب الشعر إجمالاً) امرأة، لأن المحكمين دائماً ذكور. هكذا في قصّة الحضارة لوول ديورانت.
منذ أيام زرتُ الجميل سعيد ثابت في نقابة الصحفيين. في منتصف الكلام والشتات سألني دون تركيز: تفتكر الحب يخلي الواحد يتكلم كثير. ابتسمتُ: كثيرون يتعلمون الصمت. لم يسمع ما قُلته، فقد كان يفكّر في سؤال جوهري: إذا كان التخفيض الذي تقدّمه شركة إم تي إن على المكالمات يبتدئ بعد الدقيقة الثالثة فمن أولئك الذين يفيدون من هذا التخفيض؟ أتذكر الآن، فقط، ولا أفكر بشي سوى الذاكرة. فمثلاً: منذ عامين نشرتُ نصاً شعرياً بعنوان: لأجل الله أضيئي يا ابنة الكريم. من المفترض أن الموقع الثقافي الذي نشرت فيه النص يتبع جماعة من الهواة، تمددوا فيما بعد مستغلين فراغ الذات العربية الكبير ليشكلوا دالة قليلة الجدوى اسمها: شعراء بلا حدود. حذف النص من الموقع ووصلتني رسالة تقول: تم حذف النص وشطب اسمك لتجديفك وبذاءتك. تأكدتُ آنئذٍ أن هذه الجماعة التي هي بلا حدود محاطة بكل حدود العالم. لكن ما لم أفهمه هو: ما معنى أني كنتُ أجدف؟ قبل أن تنطفئ الكهرباء هذه الليلة كنتُ أقرأ هذا النص في كتاب "العصر العالمي" لمارتن آلبرو: إن عصر العولمة يستدعي اعتماد نظرية جديدة، وتفكير جديد، وأشكال جديدة من الخروج على قواعد [ ...] خصوصاً إذا كانت القطيعة بين القديم والجديد على تلك الدرجة من العمق. تحدّث فرانك ليشنر، في عرضه المبدئي للكتاب، عن فكرة: إمكانية دمج جزيرة حديثة الاكتشاف في المجتمع العالمي الراهن، لكي يحدد بالضبط وبصورة عمليّة ما الذي يعنيه آلبرو بالقطيعة بين القديم والجديد. أعرض هذا النص بالمجّان، كحديث بريء حول ادعاءات الهواة عن المجاوزة والتفكير الكوزموبوليتاني. أعني: أولئك الذين قدموا للتو من جزيرة حديثة الاكتشاف ليتحدثوا دون وجل حول نظريات ما بعد الحداثة، مستخدمين كل أدوات التفكير الشائعة في تلك الجزيرة!
طيب ليش طوّل غياب الكهرباء الليلة؟ يُقال إن محاربي قبيلة عبيدة انتقموا لقتلاهم، فكانت النتيجة: غرق صنعاء في شبر من الظلام. بيد أن أجهزة الدولة وقفت كلها في سبيل ترضية "عُبيدة" مستخدمة كل أدوات التهدئة والاعتذار بما في ذلك "عسيب فخامة الرئيس" طبقاً لصحيفة "الشارع". صحيح أن الكهرباء لا تزال في عداد المفقودين، لكن : تكفينا طلّة السيد السقطري، والله اشتقنا لها. إنتَ فينك، مش مبيّن يعني؟ قبيلة عبيدة أصابتها الصواريخ نفسها، ومن الطائرة نفسها وتحت الذريعة العسكرية نفسها، التي أصابت قرية "المعجلة" في أبين. بالنسبة للمعجلة فحتى تقرير اللجنة البرلمانية لم يستمع إليه أحد. مناسبة رائعة، ونموذج استدلالي جاهز، للتفكير التشطيري بالنسبة لأولئك الذين يتحدثون عن اهتزاز دالة الوحدة في عيدها العشرين.
متى باترجع الكهرباء يا جماعة؟ قبل نحو ثلاثة أشهر أشهر كتب عبد الكريم الرازحي في صحيفة "الوسط" عن جدّته التي كانت تسأله في كل مرّة يزور فيها القرية واحداً من سؤالين: تقول متى شتقوم الحرب؟ أو : تقول متى شتوقف الحرب؟ وقبل حوالي ثلاثة أشهر، أيضاً، قرأتُ موضوعاً غايةً في الغرابة. في الصفحة الأولى لأسبوعية "إيلاف": أحمد الشرعبي يكتُب عن "لاقط البوري". بحثت عن التفاصيل في الصفحة الثالثة فوجدت النتيجة التالية: الكاتب المعروف أحمد الشرعبي يتحدث عن كاتب آخر " عبد الرزاق الجمل" بطريقة أصابتني بإرباك عنيف وأرتكاريا حادة. تحدّث الشرعبي عن الجمل بوصفه غلاماً كان يعمل لديه "لاقط بوري". ومن ضمن كلام قليل القيمة الأخلاقية تذكّر الأستاذ أحمد الشرعبي كيف أنه أعطى الجمَل "شوية مصاريف" ليتمكن من شراء علاج لأمه المريضة. ما الذي دفع الصديق الخامري، رئيس التحرير، للاحتفاء بكتابة كهذه؟ عندما تقرأ للأخ أحمد الشرعبي هذه الأيام في الصفحة الأخيرة من أسبوعية "الشارع" يخيّل إليك لوهلة كما لو أنك تقرأ مقطوعات شاعرية من "الغرينغو العجوز" لكارلوس فوينتوس، مثلاً. قال لي الصديق الإعلامي حمدي بكاري، قبل أيام ونحن عائدون من زيارة قرية "اللؤلؤة" في صنعاء، إن الكاتب قد يكتشف بعد سنين طويلة أنه أصبح أكثر دمامة من أولئك الذين ظل يهجو دمامتهم وقبحهم لفترة طويلة. لم نكُن في معرض حديثٍ عن الشرعبي والجمل، ومع ذلك فأنا أرجو أن لا يكون بُكاري قد تراجع عن ملاحظته العبقرية هذه.
آخر وشاية أريد أن أسجّلها هُنا: تفاجأتُ بعمق وأنا أتحدث إلى الجميل سامي الكاف قبل أسبوعين. كنّا في وسْط البلد (ميدان التحرير) مع جماعة من الأصدقاء الرائعين. قال لي: أنا مش صحفي أساساً. أنا أحمل شهادة ماجستير في هندسة الطيران. هذه معلومة مهمّة حول صحفي لافت، تشبه تلك المعلومة الجديدة التي عثرت عليها مؤخراً في دهاليز الكلام العادي: عبد الحكيم هلال أيضاً يحمل درجة ما، بعد البكالوريوس، في هندسة المياه. يعني: مش بس طاهش الضبوعة. أحب أن أهدي هذه النكتة إلى سامي الكاف، في عدن، إذ لا أزال أتذكر ضحكته العالية حين سمعها مني في صنعاء: واحد بيحب وحدة. قال لها : أنا مش زي محمود، أنا معنديش رصيد في البنك زيّه، ولا كل أسبوع بشتري عربية جديدة زيّه، ولا كل شهر في بلد، ولا عندي فللا في مارينا زيّه، ولا يخت ع النيل زيّه، ولا أبويا رجل أعمال كبير زيّ والد محمود. بس وحياة ربنا أنا بموت فيكي. ردّتْ عليه: وأنا كمان بموت فيك، بس يا ريت تحكي لي كمان شوية عن محمود. كانت هذه النكتة هدية صحيفة "الدستور" المصرية لقرّائها بمناسبة عيد الأضحى المُبارك. طابت أوقاتكم، الكهرباء رجعت يا جماعة.