حمل المثقف عبر التاريخ على عاتقه مسؤولية تكوين العقل وتشكيل ذاكرة الأمة، وكان المثقف يستقرئ الاتجاهات الأساسية لتطوير المجتمع . يقول ادوارد سعيد (إن المثقف عدو التعصب لأنَّ التعصب هو الجهل المتشنج) ويضيف: المثقف لديه رأي وموقف ولكنه أيضاً ذو فكر مفتوح لسماع أو قراءة أو مناقشة كل الآراء، وصراع الآراء هو ما يجعل الآراء نشيطة وحيوية، الأمر الذي يجعل كل حامل رأي يطور مرافعته الثقافية عن رأيه . مثلما أن أزمة (حرية التعبير) هي طامة كبرى في قاموس المثقف العربي فإن حالة الانفصام بين المثقف والمجتمع هي طامة أكبر بالتأكيد.. والحديث هنا حديث توصيف لواقع المثقف الذي يحمل وعياً سياسياً عليه أن يقرأ في أجندة التغيير عبر ممارسة الوعي السياسي لا عبر مثاليات التنظير الأيديولوجي وحده. والمتتبع للحالة اليمنية يجد اتساع هوة ذلك الانفصام بجلاء بين المثقف اليمني والمجتمع، من حيث أن مثقفي اليمن، للأسف، جزء منهم (مدوخ طافش) وجزء آخر تابع حزبي يطبل لنظريات بائدة، وجزء مدافع عن السلطة وجزء أصولي يدافع عن جماعات الدين السياسية، وجزء منهم بندق بيد الشيخ وجزء تائه بين كل هذا الكم من الغثاء مهمل منطوي جانبا يملؤه غبار الهجير، وجزء آخر خانع ذليل لا يقوى على إبداء رأيه وجزء أخير - وهم قلة نادرة - يناضل ويدافع عن فكره الوطني الشريف وقد بح صوته ولا حياة لمن تنادي. إن الايديولوجيا قد تكون قاتلة لحراك المثقف الذي عليه أن يقرأ بوعي الخارطة الذهنية للمجتمع الذي عليه أن يساهم في إنتاجه، وهي أيضاً نسق فكري لا يمكن لأي حراك ان يثمر بدونه. الفارق ان ثمة ايديولوجيا يمكن أن تستجيب لأشواق الإنسان في العدالة والكرامة والحقوق ومقاومة الفساد مع استدعاء مخزون معرفي وقيمي يؤمن به هذا الانسان.. وقد تكون ايديولوجيا اخرى تناضل من اجل كل ذلك لكنها تستدعي منظومة معرفية أخرى، الوعي الشعبي غير قادر على التعرف عليها، ناهيك انه ربما تكون منظومة مشوهة سواء من الداخل لعدم قدرتها على الاتساق مع منظومة معرفية لها صفة الرسوخ، أو من خارجها بفعل سنوات طويلة من البروباجندا المضادة التي جعلت الموقف العام منها موقفا مضافا حتى لو حملت أشواق وأحلام الإنسان وهذا ما يعكس الواقع اليمني والواقع العربي بالتأكيد إذ بات مثقفونا وبالاً علينا يصدرون كل المشاكل والمتاعب وان بدا بعضها مغلفاً باسم الوطن أو الدين أو حب المصلحة العامة بشعارات مكشوفة بائدة أكل الدهر عليها وشرب غير أن الايديولوجيا واضحة بما لا يدع نسقا بين الشعار المتبنى والعمل على الواقع. إننا في اليمن وكثير من الدول المحيطة نعاني من أزمة مثقف في وطن تصل فيه نسبة الأمية إلى حوالى 60% من عدد السكان، إذ بإمكان المثقف ان يصنع قضية رأي عام دون أمانة وينتج احتقانا بقضية مختلقة لا تنتمي للواقع بصلة دون الحاجة إلى تقديم أي براهين أو أدلة دامغة. في ثورة تقانات المعرفة التي نعيشها اليوم بات العالم قرية كونية ثم يأتي (توماس فريدمان) بتوصيف أعمق ليقول إن العالم بات اليوم (شقة سكنية) وفي تلك الشقة السكنية جرى ضخ آلاف مؤلفة من الأخبار والتقارير والمقالات خلال عام واحد هو المنصرم 2013 وصلت تلك التقارير حول اليمن مثلا إلى الذروة عن سابقاتها لتحدث ضجيجا واسعا في تلكم الشقة السكنية، وقد قيل بأن الإناء الفارغ هو الذي يحدث ضجيجا وبالتالي ذاك الضجيج بإمكانه أن يمنع القاطنين عن النوم كأقل الضرر. في الوسط الثقافي اليمني دائما ما توصف القبيلة والشيخ بأنهما ضد الحراك الثقافي والمعوق الكبير أمام الوعي والنهضة الثقافية اليمنية غير أننا، وللأسف، نلاحظ الفجوة والهوة واضحة بعدم الاتساق بين تلك النظرية وبين واقع المثقف الذي ينتقد القبيلة والشيخ الفلاني من الناس ثم يغض النقد عن الشيخ الآخر الذي يربطه به انتماء حزبي أو مصلحة ما. أو نستطيع القول بأن المعسكر الثقافي انقسم إلى فسطاطين، فسطاط ناقد وآخرين مدافعين حد الاستماتة عن القبيلة والشيخ اللذين يوصفان عبر أجيال المثقفين أنهما وراء الجمود الشنيع الذي يعانيه الوضع الثقافي في بلادنا.. وبالتالي يظهر الشرخ جليا في أوساط المثقفين ليبعث مزيداً من الركاكة والهشاشة والوهن الممقوت!.. ومن ثم يسقط قناع المثقف المتشدق بشعار الحداثة . كيف سنراهن في اليمن على مثقفينا وكثير منهم مرتهن لاملاءات من يتبعونهم ويمولونهم وهو ما يحيد كثيراً عن قضية الوطن وحق الشعب في الحياة والعيش الكريم، حتى ان كثيراً من المفسبكين، للأسف، المحسوبين على فئة المثقف اليمني باتوا يروجون هرطقات جوفاء في مقالات أو بوستات فيسبوك كلها تمجد جماعاتهم وتهاجم الآخر بصورة العداء المطلق. أن الايدولوجيا التي لا يمكن إلا أن ينتظم فيها أي نشاط حركي للمثقف تبدو مشكلة وضرورة في آن. فالايديولوجيا المنبتة عن تربة المجتمع ووعيه الثقافي محكوم عليها سلفاً بالفشل في إحداث أي حراك ايجابي، ولنا فيما يحدث في بعض الدول العربية ومقدمة ذلك اليمن الدليل الكافي على اكتشاف ذلك الضمور الذي تعاني منه التجمعات أو الأحزاب التي تتوسل خطاباً لم يعد رائجاً حتى في أوساط كثير من المثقفين أنفسهم، ناهيك عن رجل الشارع الذي لا يمكن أن يتصور وعيه أن ثمة حلا يأتي من خلال تيارات ثقافية لا جذور لها في هويته.. ولنا في اكتشاف ان الأحزاب أو التجمعات التي طبع نشاطها بمنظومة فكرية تتوسل المكون الثقافي والمعرفي والقيمي لدى الشرائح العريضة في المجتمعات العربية كيف حققت القبول النسبي، إذا لم يكن المكتسح في أي فرز يضمنه صندوق اقتراع غير قابل للتزوير.. هنا أيضاً ثمة أيديولوجيا من نوع آخر وهي أيديولوجيا ذات هوية لها قبول داخلي ولها رواج بسبب الفراغ أو الفشل كالايديولوجيا المرتبطة بالدين التي تتصدر المشهد اليمني.. التجارب العربية السابقة التي عبرت عن إيديولوجيا تحمل صفة مشروع، لكنها بلا مقومات مشروع له القدرة على الحياة، لم تحصد سوى الفشل. إن الثقافة والأصولية الأيديولوجية لا تجتمعان البتة، فالثقافة انفتاح والأصولية تطرف، والثقافة فهم ودراية والأصولية انغلاق، والثقافة رسالة حب والأصولية تعميق للكراهية، والثقافة سلام والأصولية حرب، ومن هنا وجب على المثقف التفريق بين المفهومين ووضع نفسه في المكان اللائق خاصة إذا ما علمنا أننا بتنا نعاني فقرا معرفيا وتجريفا فكريا مهولا في وافر من تمويل متعدد المصادر يجعل المثقف اكبر الخونة!،، وهذا هو مكمن العلة وبيت الداء الذي قصدت. على المثقف اليمني أن يتنبه للخطر الكارثي الذي وقع فيه وأن يحاول جاهدا الخروج من اسطوانة العزلة التي وضع نفسه فيها قسرا وأن يعي جيدا أننا جزء من هذا العالم الذي يسير لبناء معرفته بسرعة التطور الرقمي الذي يعايشه لا ببطء الكهوف وأيديولوجيا إحياء الأموات، لابد من مراجعة الخطاب الثقافي وإعادة قراءة الواقع وصياغته بالطريقة الصحيحة لا بالطريقة المفروضة أيديولوجيا، وان لا يصادر عقل المثقف اليمني ليفكر الآخرون بالنيابة عنه فالمثقف جزء من الحياة الاجتماعية وينبغي أن يخرج إلى حيزه المفترض ليملأه برسم ملامح المستقبل السياسي والاجتماعي المأمول بكسر قيد الايديولوجيا دون التخندق حول نفسه ليقود معركة ليست معركته الحقيقية أصلا، فهو الأكثر من يراهن عليه لكسر الجمود ونبذ التخلف وإحباط محاولات استغلاله من قبل من يسعون لصنع معاركهم الشخصية إزاء التضحية بالمثقف ومستقبله والوطن والشعب. * فاروق ثابت, صحفي وطالب دكتوراه مقيم بماليزيا