لم تكن أول الناجين من وثبة موت ظمأى للدماء، لكنها حتماً كانت أول العائدين إلى كهوف الموت ، لتسأله: لماذا اخترت إرهابنا ، وآثرت افتراس الأعمار في رياض زكّى نفوسها الرّب بالحكمة والإيمان !؟ فحين شدت (ماري كوين Mary Quin) رحالها لليمن عام 1998م ، لم يكن في رأسها غير صور مدهشة تخيلتها من مدن التاريخ والتراث ، وعالم الأساطير اليمني.. لكنها اليوم تلوذ بين سطور كتابها (كنت مُختطفة في اليمن Kidnapped in Yemen ) لتروي حكايتها مع الإرهابيين الذين اختطفوها مع بقية أفراد فوج سياحي مؤلف من 16 فرداً، وكيف نجت من براثن موت حتمي، لتعود بعد زمن إلى كنف ذكريات الرعب في جبال أبين، قاطعة عهداً على نفسها بكشف أسرار تلك العصابات، وخيوط شبكاتها الارهابية، عسى أن يقود ذلك الجهد حكومة اليمن للاقتصاص من سراطين الموت. ماري كوين امرأة نيوزلندية متحررة، نشأت بمدينة (بالمرستون نورث)، وشغلت مركز نائب رئيس شركة (كسيروكس) بالولاياتالمتحدةالأمريكية ، تذكر في كتابها (كنت مُختطفة في اليمن): أنها قبيل أعياد الكرسماس تماماً من العام 1998م انضمت في العاصمة اليمنية صنعاء إلى فوج سياحي مؤلف من 18 شخصاً، بينهم بريطانيون وأمريكيون وشخصين من استراليا ضمن جولة سياحية حول اليمن لمدة أسبوعين، لكن بعد بضعة أيام قام إسلاميون متشددون مدججون بالأسلحة باختطاف 16 شخصاً من الفوج في منطقة أبين على الطريق المؤدي إلى ميناء عدن. ورغم اعتقادها أن عمليات الاختطاف التي حدثت من قبل تعود إلى خلافات قبلية تافهة مع الحكومة، إلا أنها تقول : أن الاختطاف الذي تعرضت له مجموعتها كان (لسوء حظها) مختلفاً، مبررة : لأن الخاطفين كانوا يطالبون السلطات اليمنية بإطلاق سراح اثنين من المواطنين البريطانيين المعتقلين لديها. وفي ذلك الوقت لم تكن ماري تعلم أن البريطانيين المعتقلين هما ابن الداعية المتشدد أبو حمزة المصري ،الذي ظهر في محكمة لندن الإبتدائية في 28 مايو من العام الجاري، وابن زوجته الأولى.. لكنها اكتشفت لاحقاً أيضاً أن كلا الولدين كانا قد اعتقلا عقب العثور على متفجرات في سيارة مؤجرة كانا يستقلانها، وتقول: (أعتقد أن السلطات كانت تشك بأمريهما، وكانت تراقبهما منذ مدة قبل إلقاء القبض عليهما). ثم تروي كيف قام 200 جندي يمني بإنقاذ الرهائن بعد معركة دامت ساعتين، مما أسفر عن مقتل أربع رهائن على أيدي الخاطفين، إضافة إلى مقتل عدة أشخاص من الخاطفين ، وإلقاء القبض على ثلاثة آخرين، وفرار 13 شخص منهم، إلا أنها لم تصب بأذى، واستطاعت حماية نفسها بإشهار بندقية انتزعتها من يد أحد الخاطفين المصابين. بعد عودة ماري كوين إلى ديارها ظل الشيء الوحيد الذي يشغل رأسها هو سؤالها المتكرر: (أريد أن أعرف لماذا حدث هذا الاختطاف؟ أريد إجابة!)، فكان أن قادها فضولها إلى اليمن مرة أخرى ، فتروي في كتابها: (أنها ليست كوابيس تراودني، فأنني يقظة تماماً، إلاّ أن في داخلي قوة تشدّني ولا يريحني منها حتى النوم.. أشعر بحاجة لإضرام كل شيء من ماضي حياتي لأبدأ رحلة جديدة تماماً). وهكذا عادت ماري كوين إلى اليمن ثانية لتحاول وتجرب فك طلاسم ( اللغز)، فالتقت بالدكتور عبدالكريم الإرياني- رئيس الوزراء (آنذاك)، وتحدثت معه بهذا الشأن، ثم بطاقم السفارة البريطانية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، وسجناء متهمون بالإرهاب، وآخرون ذو علاقة بقضية الاختطاف والآثار المأساوية التي تمخضت عنها عملية الإنقاذ.. وكل هذا بحثاً عن كوامن الإرهاب. وقادها فضولها – التحقيقي بالمسألة - إلى لندن لتلتقي هناك بالداعية أبو حمزة المصري، الذي كان يضع عيناً زجاجية، ويستخدم الكلابيب بموضع الكفين. وتروي ماري كوين: (أنه يدّعي أن يديه قُطعت بواسطة لغم أرضي في أفغانستان في الثمانينات)، وتضيف: (طلبت إجراء مقابلة مع المصري لمدة 15 دقيقة، وكنت أعرف أنه كان على علاقة بحادث الاختطاف، لكنني لم أكن أعلم إلى أي مدى هو متورط). وتصف لقاءها: (لقد ازداد فضوله وشغفه للقائي بعد أن أدرك من أكون، فتحولت مقابلة الخمسة عشرة دقيقة إلى مدة ساعة كاملة، وعلى الرغم من أنني لم أكن مرعوبة ، لكنه كان شخصاً ليس سهلاً على المرء نسيانه). وتستأنف : ( إتّضح لي أن أبو حمزة المصري كان على اتصال هاتفي مع أبو حسن المحضار – زعيم الخاطفين- خلال العملية، واستمر في حديثه معه لحوالي الساعة بدءً من لحظة اختطافنا) وتؤكد: (في مقابلتي معه سألته عن موضوع اتصاله الهاتفي بالمحضار، فلم ينكر ذلك) ، مضيفة: (رغم أنني حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف إلى أي مدى قد يكون ذو صلة بحادث الاختطاف). وتقول في كتابها: أن الأصوليين أمثال أبو حمزة المصري يعتقدون أن الحكومات الإسلامية يجب أن تعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لكنهم تخلوا عن ذلك ، وعملوا بثقافة الغرب من أجل تشجيع السياحة التي تشمل على بيع الكحول، وإباحة تقاليد الغرب). ومن خلال الكتاب نكتشف أن ماري كوين لم تكن إنسانة عادية تبحث عن شغل فراغها بمغامرة مثيرة ، بل أنها كانت تحمل درجة الشرف في علوم الفيزياء، وفي عام 1976 ذهبت إلى الولاياتالمتحدة لإكمال دراستها، فكانت أن نالت درجة الدكتوراه في الهندسة، وتوفقت إلى أن تصبح نائب رئيس شركة أمريكية (Xerox). ومع كل هذا، فأن ماري كوين بعد نجاتها من أيدي الإرهابيين في جبال أبين ، نذرت وقتها الثمين للبحث عن حقيقة خلايا الإرهاب، ودوافع شخوصها، وخيوط شباكها (اللعينة)، أملاً في منح البشرية بعض سلامها الاجتماعي، وأمنها الذي يكفل لها حياة هادئة. ولعل الكتاب الذي ألفته ماري كوين (Kidnapped in Yemen) لا يمثل مجرد مذكرات شخصية لأحداث حقبة معينة – بحسب وصفها- بقدر ما يترجم خلاصات تحريات دقيقة في خلفيات الشبكة الإرهابية للداعية أبو حمزة المصري، وامتداداتها في اليمن بقيادة أبو الحسن المحضار، ساقت خلالها جملة من الحقائق والشهادات الدامغة، التي تكفل لكل ضحايا "المصري" وضع الحديد في معصميه الصناعيين، ولف الحبل على عنقه. تقول ماري كوين في خلاصة كتابها ، أنها تأمل أن تكون قدمت للحكومة اليمنية المعلومات والأدلة الكافية التي تساعدها في الاقتصاص من أولئك الإرهابيين- وفي مقدمتهم أبو حمزة المصري، وإن كل ما تنتظره هو أن يعيش اليمنيون بأمن وسلام ، وبمنأى عن كوابيس الإرهاب.