نعلم جميعنا أن أمريكا خاضت قبل بضعة قرون حربا ضارية للتخلص من تجاوزات الحكم الاستعماري البريطاني، ونظام وراثة السلطة العبثي والسخيف الذي سمح لملك مخبول ومسن هو جورج الثالث بالاستمرار في الحكم. ويبدو أن الحكم بالوراثة فكرة سخيفة عندما تصبح المورثات العضوية حكما، ومصدرا لخيارات غريبة. وقد كتب الرئيس توماس جيفرسون -أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة- في إحدى رسائله قائلا: "النظام الجمهوري هو شكل من أشكال الحكم لا يدخل حربا خفية أو مفتوحة على حقوق الإنسان." ومن الغريب أن يشهد بلد الحرية صرعة الأسر الحاكمة أو المتطلعة إلى الحكم بعد 208 سنوات من كتابة هذه الرسالة. قد تكون سنة 2008 معلما في تاريخ الولاياتالمتحدة، لأن خلالها رفع سقف المسموح به وأدخل أول رئيس أفريقي أمريكي إلى البيت الأبيض. لكن سياسة الدهاليز والمساومات ولي الذراع بخصوص عدد من المقاعد الشاغرة في مجلس الشيوخ تشي بالرغبة في أن تظل بعض أهم المناصب في كنف أسر بعينها. براعم يانعة هناك من يعتقد أن جو بايدن نائب الرئيس المنتخب يريد أن يخلفه نجله بو في منصبه بمجلس الشيوخ عن ولاية دلاوير والذي شغله طيلة ثلاثة عقود. لكن - ويا للأسف - لا يمكن لبو أن يخوض السباق في الوقت الراهن لتولي هذا المنصب نظرا لأنه يؤدي خدمته العسكرية في العراق. في هذه الأثناء عُين رئيس ديوان بايدن السابق لشغل المنصب البرلماني الشاغر. ويقول البعض "حتى يحرس المنصب" إلى أن يعود بو من الجبهة لتوليه. ثم هناك أيضا فضيحة الصفقات المبرمة لشغل منصب باراك أوباما الشاغر في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي. وقبل أن يطفو إسم حاكم الولاية رود بلاجويفيتش، كان البرلماني جيسي جاكسون الإبن - نجل السياسي الديمقراطي المعني بالحقوق المدنية القس جيسي جاكسون الأب- المرشح الأوفر حظا لخلافة الرئيس المنتخب في المنصب البرلماني. قد يفلت من الفضيحة سالما وقد يرى الأب نجله عضوا في مجلس الشيوخ. هل يكون برعما يانعا في دوحة سياسية جديدة في الولاياتالمتحدة. لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ إذا ما تأكدت الأنباء فقد يخلي السيناتور كين سالازار منصبه عن ولاية كولورادو لتولي وزارة الداخلية في الإدارة الجديدة. ويسود الاعتقاد أن شقيقه الأصغر، جون وهو عضو في مجلس النواب، قد يحظى بترقية إلى منصب أخيه. وستغادر هيلاري كلينتون -زوجة الرئيس الأمريكي السابق- مقعدها في مجلس الشيوخ عن نيويورك، وتخوض كارولاين كينيدي -إبنة الرئيس السابق جون كينيدي- حملة ضغط لخلافتها، على الرغم من ابتعادها عن الساحة السياسية في الماضي. ويمد عمها السيناتور معتل الصحة تيد كينيدي لها يد العون، فأصدر نداء لصالحها، ويقال إن حاكم ولاية نيويورك ديفيد بيترسون -المسؤول عن تعيين خليفة هيلاري كلينتون- قد أبدى بعض التجاوب. وكان يعتقد أن الموت المفاجئ لشقيق كارولاين جون فيتجيرالد كينيدي الإبن في حادث تحطم طائرته الخاص قد وضع نهاية لطموح آل كينيدي السياسية. لكن جذوة الأسرة لاتزال مشتعلة. لآ أقصد أن كارولاين ليست أهلا للمهمة، وإنما أتساءل عما إذا كانت سترشح للمنصب لو لم تكن تحمل اسم كينيدي. صفارة الانطلاق وماذا عن آل كلينتون؟ كانت كلينتون الإبنة تشيلسي حاضرة إلى جانب والدتها طيلة الحملة الانتخابية الرئاسية، ولكن بصمت مدروس. ويشاع أنها احتكت بالسياسة مدة أطول مما هو مسموح به لفتاة شابة تتحلى بمكارم أخلاقية. لكن ماذا قال والدها للمجلة الألمانية بونته مؤخرا؟ " أنا وهيلاري فخوران جدا بتشيلسي لأنها لم تسع أبدا إلى الانتفاع من وضعها. وأعتقد أنه سيكون من الرائع أن تخوض مجال السياسة." يبدو لي كما لو أنني أسمع صفارة انطلاق حملة دعائية. إذ لم يسبق لبيل كلينتون أن صرح بشيئ مثل هذا من قبل. وفي حال ما إذا اعتقدتم أن البذور الأسرية ظاهرة ديمقراطية، تذكروا فقط من هما الرئيسان الواحد والأربعون والثالث والأربعون للولايات المتحدة. إن أسرة بوش لم تمنح الولاياتالمتحدة رئيسين شغلا المنصب لمدة 12 سنة فقط، بل منحتها كذلك رئيسين بنفس الإسم، وهذا ما قد يكون اقتصد في مصاريف البيت الأبيض على الأقل فيما يتعلق باستبدال أغطية الطاولات المعلمة بحرفي اسمهما. وبما أن الحديث بالحديث يذكر، اعلموا أن أسرة بوش لا تفتقر إلى دم جديد. ألم يصرح الرئيس المنتهية ولايته جورج بوش الإبن بأن شقيقه الأصغر جيب حاكم فلوريدا السابق، يستأهل أن يكون عضوا في مجلس الشيوخ؟ عن جد. الحل الأمثل إذن ماذا عن غريزة البقاء لظاهرة الحكم عبر الوراثة؟ هل يتضارب النظام الجمهوري الصرف مع رغباتنا الإنسانية وحاجتنا إلى المشاهير والشهرة؟ هل نحس بالاطمئنان إلى الماركات الأسرية في السلطة؟ في بريطانيا يمكنهم أن يتخلصوا من رؤساء الحكومات بوقاحة مثيرة للإعجاب لأن لديهم شكلا من الاستمرارية الملكية التي تسود دون أن تحكم. الملكية الدستورية هي الحل. ونتيجة لذلك لم يتودد البريطانيون أبدا إلى المتطلعين إلى خلافة ذويهم في المناصب التي انتخبوا لها، أو إلى من يتطلعون إلى استثمار مناصب آبائهم أو أمهاتهم لتحقيق طموحات سياسية. أنظروا ماذا حل بأبناء مارغريت ثاتشر أو إلى أحفاد وينستون تشيرشل. أما الفرنسيون فما زالوا أوفياء إلى مبادئ ثورتهم. فثمة الكثير من العظمة التي قد تتكدر بسبب نزوات سياسية أسرية. وفي ألمانيا صارت كراهية الأسر السياسية مبدئا من المبادئ السياسية المتأصلة بسبب تجاوزات أدولف هتلر المزرية. لا تصريح مطلقا قد أكون فجا بعض الشيء. قد تكون السياسة تجارة عائلية يسلمها جيل لجيل، كما هو الحال في مخبزة أو مصبنة. يرث الجيل المقبل المهنة، لكن عليه أن يبدأ العمل من الصفر. بعد الخطوة الأولى ليس هناك تصريح مطلق. قد يتوارث آل بوش وآل كينيدي وآل بايدن وآل جاكسون وآل سالازار السلطة ومقاعد مجلس الشيوخ، لكنهم سيضطرون بعد حين إلى خوض الانتخابات للاحتفاظ بالمنصب؛ حينها عليهم إقناع الناخبين، كما عليهم أن يبينوا على أهليتهم. ولكن إذا كنت في باكستان أو الهند أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تتكرس ثقافة الأسر الحاكمة، فقد يخامرك الشك في محاسن الوثوق في أهلية النسل فيما يتعلق بالسلطة. لقد وضع عدد من الناس الأذكياء ببلادة ثقتهم العمياء في رجل اسمه مادوف لمجرد أنه كان عضوا في النوادي الملائمة، أو لأنه كان يهب أموالا للقضايا العادلة، وخلق انطباعا بأنه يستطيع أن يُدر أرباحا. واستنادا إلى نفس الحجة ينبغي عذر المراقبين من باكستان أو أفريقيا عندما يعتبرون أن منح مقعد في البرلمان لصديق أوقريب مسألة معتادة. *بي بي سي