هوذا رمضان يعود إلينا مشرق الوجه، باسم المحيا، فياض الأمل، لا تسمع النفوس المؤمنة وقع أقدامه إلا وخشعت بأبصارها إلى السماء، كما تخشع الزهور الظمأى لقطرات المطر، وكما تخشع البلابل حين تداعب أجفانها النعسى خيوط الفجر الأولى تمسح عنها بقايا العتمة، وتبشّرها بيومٍ من الضوء جديد. نحن.. وهو.. ظمأ ذابح وغيث مدرار، لا يكاد يصل إلينا إلا وخلعنا مسوح القنوط ومطارف الحزن، وانطلقنا معه في مدارات الحب والشوق لنرسم بأضوائه الربانية معالم رجاء وملامح أمل. ورمضان أستاذ عجيب ومعلّم أريب، يأتي إلينا ونحن مثقلون بالهموم، تأكل الوحشة من قلوبنا ووجوهنا، ويفرد الحزن سرادقه الواسعة في ذواتنا .. فيمسك بأيدينا رويدا رويدا.. ويخرجنا من طوايانا الخربة إلى آفاق من الإنسانية فسيحة، حيث يمنحنا قلوبا من نور ووجوها من نور.. ويغمرنا بالنور ، فليس ثمة في رمضان غير النور .. والنور وحده. يأتي إلينا ونحن انتظار قلق مثقل بالمرارة، وتوقّع طافحٌ بالخيبات، فينفض عنا غبار اليأس ودخان الإحباط، ويقودنا إلى مكان وزمان مختلفين عن أزمنتنا وأمكنتنا.. ترفرف فيهما رحمات الله.. إن رحمة الله قريب من المحسنين. يأتي إلينا وقد أثخن فينا القريب والبعيد وشرب التراب من دمائنا حتى ثمل، وأكلت المدافن من أجسادنا حتى أصابتها التخمة، وصار الموت ضيفا ثقيلا لا تنفك عواصفه قاصفة قاصمة، ولا تتوقف رحاه، ولا تتورع سباعه عن نهش القلوب والعيون، ولا تكف غيلانه عن إقامة مأتم في كل بيت، وحين يأتي رمضان يهمس في روعنا أن النفوس المؤمنة تتطهّر بالألم، وأن هذا الفناء العاصف بعده ربيع مزهر وفرَج مثمر، وأن صرخات بلال: أحد أحد.. هي التي نسجت رايات النصر يوم بدر، وأنين سميّة وهي تبصق في وجه الاستكبار الجاهل هو الذي منح خيول الفتح صهيلها.. بدر والفتح درسان لا يجيد شرحهما، واستنباط العظات والعبر منهما غير هذا الأستاذ العظيم: رمضان. يأتي رمضان وقد تداعت علينا ذئاب الحقد، ودنس الأرجاس والأدناس مرابع الطهر ومراتع الفضيلة، وتمادى تتار العصر في جبروتهم.. وآثار أقدامهم النجسة في مسرى رسول الإنسانية، وروائحهم النتنة تزكم حائط البراق.. وهم يقرعون الكؤوس ويعزفون أناشيدهم الحقيرة فرحين بنصر عابر وظفر زائل.. وضحكاتهم الماجنة يصل صداها إلى قلب كل موحّد مؤمن زلزالا من الحقد والكراهية، فيقف رمضان الأستاذ والمعلم ليرينا مكامن الداء ومواطن الضعف فيجبر فينا ما انكسر، ويلمّ منا ما تبعثر، ويبذر فينا توثّبا متربصا لفتح جديد ويشير بيديه إلى بيسان التي صنع فيها عين جالوت ذات نصر، مبشرا بعين جالوتٍ جديدة يتطهر فيها كل ثرى الحبيبة فلسطين. ورمضان الذي أنزل فيه القرآن أنزل فيه النصر: النصر على النفس وعلى النزوات والرغائب، والنصر على كل ما يحيط بالفرد من عوامل الموت ومسببات الاندثار.. والنصر بالحق لكل طالب حق على أعداء الجمال والخير والحق. وعسى أن يكون قريبا.