على مدى تاريخ البشرية مثّل الوطن المعادل الوجودي للإنسان.. فليس ثمة إشراق إنساني إلا وكان الوطن هو الباحث الحثيث والحضن الدافئ الحنون له.. وإذا كان هذا الأمر يتجلى بشكل أوضح في الحالات الجمعية، حيث أزهرت الحضارات، ونشأت الدول؛ فإنه يتجلّى كذلك في الحالات الفردية حيث تجلّت المواهب، وبرز العباقرة الأفذاذ في مختلف العلوم والفنون، مستظلين بشجرة مورقة وارفة الظلال اسمها الوطن. في تاريخ الأمم والحضارات حضر المكان/ الوطن بشكل طاغ، وأعطى لكل حضارة خصوصيتها المكانية التي ميّزتها عن سواها، ويتجلى ذلك بشكل واضح في تواريخ الدول العظيمة التي ظهرت في اليمن في فترات متتالية ابتداء من دولة سبأ ومعين وانتهاء بالدول الحديثة، حيث تنوعت هذه الحضارات بتنوع الأمكنة، وبرز فيها بحث الإنسان الجاد عن هوية تحدده زمنيا ومكانيا، فنجح في ذلك مرات عديدة احتفظت بها الإنسانية ذاكرة وطن ومسيرة حضارة. وفي تاريخ اليمن الحديث برزت ظاهرة البحث عن الهوية بشكل لافت حيث سعت كل الثورات المتتالية سواء في جنوباليمن أو في شمالها أما لاستعادة هوية مفقودة، أو للحفاظ على هوية بدأت تتآكل تحت مطارق التيه وضربات الضياع، وفي هذا السياق يمكن قراءة مختلف الحركات الثورية في اليمن لا في العصر الحديث، وإنما في مختلف العصور والقرون، فلا تختلف على سبيل المثال ثورة نشوان الجميري عن ثورة الفقيه ياسين عن ثورة حميد المقطري عن ثورة المطاع والمحلوي عن ثورة السلال والزبيري، فكلُّها تأتي في سياق الاستجابة الطبيعية لاستعادة الهوية أو لحمايتها، وليس لشيء دون ذلك. ومما يميّز الحالة اليمنية في رحلة البحث عن الهوية تلك الحالات الفردية التي مثّلها كوكبة من الأدباء والمبدعين الذين أجبرتهم ظروفهم السياسية والاقتصادية إلى الرحيل عن الوطن والهجرة في أرض الله، بحثا عن الذات.. وعن فضاءات تتيح لهم التحليق صعدا في سماء الإنسانية، وحين تحقق لهم ذلك كان الوطن نبضا خفاقا بين جوانحهم يتنفسونها ويعيشون في أطياف روعتها، ويحنون بشجن طاعن إلى مسارحها وجبالها وظلالها الوارفة. ولعل أصدق مثال على ذلك هو أديب اليمن الكبير علي أحمد باكثير الذي بحث عن ذاته في حضرموت كثيرا، وحاول أن يؤثث فضاء إبداعيا يتيح له ولغيره من الأدباء الشباب أن يتنفسوا بعيدا عن الأطر التقليدية، وأن يؤسسوا لفعل أدبي مغاير، يتجاوز النمطية المقيتة إلى فاعلية جادة تخاطب أشواق الإنسان، وتحدو طموحه في غد جميل ووطن أجمل، وتستعيد هوية الوطن الأدبية التي هيمنت على المشهد العربي لفترات عديدة بأسماء لامعة منها امرؤ القيس ووضاح اليمن وعمارة بن علي الحكمي، وأبي بكر بن شهاب، وصالح الحامد، وقافلة طويلة من المتميّزين الذين أوشك الأدب والفكر بهم أن يكون يمنيا خالصا.. غير أنَّ الأنماط التقليدية التي كانت تهيمن على المشهد آنذاك لم تستسغ منه ذلك، فراحت تضع العراقيل في طريقه حتى وجد نفسه يوشك على الانطفاء، فانطلق في أرض الله باحثا عن ذاته، وحين استقرَّ به عصى الترحال في أرض الكنانة فألّف وأبدع واشتهر، وأصبح ملأ سمع الناس وبصرهم كانت اليمن نابضة في قلبه، فحضرت في شعره ونثرهن ولم تنسه قضيته الكبرى في محاربة القبح من أن يعطي وطنه جزءا من نتاجه الأدبي.. لقد وجد باكثير ذاته لكنه لم يضع هويته الوطنية، وهذه خصيصة من خصائص هذا العملاق، بل وكل العمالقة الذين حملوا هويتهم الوطنية حتى وهم هاربون من جحيم الظلم في بلدهم، وراحوا يتغنون باليمن، ويضيفون إلى رصيدها الإنساني ما يجعها حاضرة لامعة حتى وهي تعيش أشد فترات التعاسة.