في أواخر سبعينيات القرن الماضي قدم اليمن واحد من أساتذة التاريخ اليمني في العصر الحديث. قرأ عنها في بلده مصر كثيرا، وألّف في تاريخها، لكن ذلك لم يرو عطش روحه إلى منابع العروبة، ومنابت التاريخ، فطار إليه حاملا آمالا وتطلعات بحثية، وحبا لا تطفئ أشواقه إلا لذة القرب وطيب الوصال، مؤمنا حد اليقين أن الكتابة في تاريخ هذا البلد العريق لن تصل إلى الغاية المرجوة إلا وهو في ضيافة هذا البلد، يستنطق آثاره، ويكتشف أسراره، فليس الخبر كالعيان. كان هذا الباحث هو الدكتور سيد مصطفى سالم الذي رحل عن الدنيا أمس الأول بعد رحلة مثمرة في تاريخ اليمن استمرت زهاء أربعين سنة. ما أن وصل إلى صنعاء حتى لقي من الحفاوة والتكريم ما أزال عنه وحشة الغريب، فأحس وهو المفارق لأهله في مصر أنه عائد لأهله في اليمن، فألقى عصاه واستقرّ به النوى، بعد أن وجد نفسه لا ضيفا يتلقى من واجب الضيافة ما يتلقاه عابر السبيل من كرم عابر، وإنما نازلا مكرما بين أهله وذويه. وإلى جانب عمله محاضرا لمادة التاريخ اليمني في عدد من كليات جامعة صنعاء، فقد ذُلّلت له سبل البحث في كافة الهيئات ذات الصلة، ووضعت مئات الوثائق التاريخية في متناول يده، فعكف على تاريخ اليمن الحديث عقودا من الزمن، انجز خلالها إضافات مهمة في تاريخ اليمن الحديث، ومن هذه المؤلفات: الفتح العثماني الأول لليمن، تكوين اليمن الحديث، نصوص يمنية عن الحملة الفرنسية على مصر، البحر الأحمر والجزر اليمنية، البريد الأدبي.. حلقة مفقودة من حركة التنوير في اليمن، دراسات وثائقية يمنية، دراسات وثائقية يمنية، مراحل العلاقات اليمنية السعودية، وثائق يمنية، كما قام بتحقيق عدد من ذخائر المخطوطات اليمنية. منح سالم الجنسية اليمنية تقديرا لجهوده البحثية في التاريخ اليمني، ومما يؤثر عنه أنه كان يرفض استلام راتبه بعملة أخرى غير الريال اليمني، وأنه عرض على الجهات المعنية إصدار كتبه وبيعها بسعر تشجيعي متنازلا عن حقوقه المادية إسهاما منه في وضع هذه الوثائق التاريخية في متناول الباحثين والقراء، لكن طلبه هذا جوبه بالتسويف والمماطلة. عاد سالم في الآونة الأخيرة إلى مصر بجسم مثقل بالعلل والشيخوخة، وبقلب يقطر دما لما وصل إليه حال اليمن اليوم. مات وفي قلبه جبال من الحسرات لأن اليمن السعيد لم يعد سعيدا.