في مطلع القرن العشرين الميلادي تولى يحيى حميد الدين حكم اليمن، و فيما كان العالم كله يتسابق لفتح أبوابه للتطور النهضوي الذي يتنامى، كان نظام الحكم الإمامي المتخلف، يمعن في إغلاق أبواب اليمن، و نوافذه، ومنافذه ؛ حتى لا تتسرب نقطة ضوء تشير لنهضة أو حضارة، أو حرية ، بل مضى يتتبع بالهدم و الإلغاء لكل ما كان العثمانيون قد أسسوه أو شرعوا فيه؛ من مدارس، أو كليات، و صحافة، أو مستشفيات، و سكة حديد .. الخ. و أحكم نظام الإمامة تطويق اليمن و اليمنيين بسور ليس له باب، باطنه عذاب، و خارجه تشرد و ضياع !
و عاشت اليمن أسوأ نظام حكم لمن يزعمون أن لهم أحقية الحكم الإلهي و التفويض المطلق من الله .. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
و أشرقت شمس يوم السادس و العشرين من سبتمبر المجيدة، و تحطم باب السجن الكبير، و الأكبر في العالم، و دكت أسوار التخلف و الكهنوت، و استفاق اليمنيون و قد أطلقوا من السجن الرهيب على مأساة وطن تجاوزه الزمن ؛ لأنه كان مختطفا خلف مجاهل الإمامة البغيض.
و استفاق اليمنيون على وطن محطم، ما به مظهر من مظاهر الحياة، و ليس له صلة بالقرن العشرين.
لا طرق ؛ فالطرق تمكن أفراد المجتمع و شرائحه من اللقاءات و الاجتماعات و تبادل الآراء ، و التشاكي لبعض مما يعانونه من فقر و جهل و مرض، و من تعسف دائم، وجبايات لاتنتهي ، فكان أن فرض الحكم الإمامي عزلة داخلية بين النواحي و المحافظات؛ لعدم وجود طرق، ولا مواصلات، بحيث يعيش المرء عمره، دون أن يعرف من يعيش في لواء صنعاء مدينة صنعاء، أو من يعيش في محافظة تعز مدينة تعز .. و هكذا !
لا مدارس ؛ فالمدارس معرف و ثقافة و علم، وذلك يعني أن يدرك الناس بؤس حياتهم، و تخلف بلدهم، و حجم الظلم و المظلومية التي تكبل الشعب و الوطن، و سيعملون على التغيير، و يطالبون بالتصحيح و ينادون بالإصلاح .. وبالتالي فلا بد من إغلاق منافذ المعرفة و الثقافة ومحاربة العلم و التعليم .. و إذن فلا مدارس، و لا معاهد، و لا جامعات، فكل هذه المسميات ؛ شر مستطير، و خطر عظيم يهدد حكم الطغاة، و يفتح أذهان الناس و عقولهم، فيتكشف لهم مدى التخلف الذي يعيشونه، و أكذوبة خرافة الحق الإلهي في الحكم الذي يزعمها الطغاة ، ويستميت المدّعون لها في ترسيخها و فرضها عبر التجهيل و البطش و القمع.
لا كتب ؛ و لا صحافة، و لا وسائل ثقافة، فكل ذلك كفر و انحراف لا يرضاه (الإمام) لشعبه العزيز..هكذا كانت مبررات الطغاة و ماتزال!
يد واحدة فقط، هي من تحكم، و هي من تحاكم، و هي وحدها من تسجن و تعدم، و هي وحدها من تمنع و هي من تسمح، و كذلك هي و حدها من تبرئ، إذا قدّر و برأت أحدا ما ..!! عندما تم إعلان الاتحاد الفيدرالي الذي ضم اليمن ومصر و سوريا، قدّم صحفي مصري جوازه للسفارة اليمنية بالقاهرة لنيل تأشيرة دخول، و كان من يريد أن يزور اليمن فلا بد عليه أن يحصل على الموافقة من الإمام مباشرة، لكن السفير اليمني بالقاهرة بادر لمنح الصحفي المصري تأشيرة دخول بدون الإذن المسبق من الإمام كالعادة، باعتبار أن اليمن قد صار عضوا في الاتحاد الفيدرالي، فلما وصل الصحفي المصري إلى المطار - بحسب مذكرات القاضي الإرياني - استغرب المسؤول المعني في المطار كيف جاء هذا بلا إذن صادر من الإمام، فما كان منه إلا أن يرفع الأمر للإمام الذي أمر بعودة الصحفي فورا على نفس الطائرة و باليوم نفسه.
فالسجن الكبير لا بد أن يمسك بمفاتيحه السجان الأكبر و بالتالي فلا بد أن تكون كل الأمور بيد الحاكم المطلق ؛ فهو بزعمه و زعم من على شاكلته حاكم بأمر الله؛ فبئس ما ينسبون لأنفسهم من أكاذيب و خرافات ؛ ليتسلطوا بها زورا و بهتانا على الناس.
لذلك كان من أوجب واجبات الفروض الجماعية على الشعب البمني أن يثور لإسقاط ذلك الطغيان، كما هو الواجب و الفرض اليوم إسقاط أدعياء تلك الخرافة التي تدعي الحق الإلهي في الحكم؛ لتعيد اليمن و اليمنيين إلى ما كانوا عليه خلف أسوار الحياة و التاريخ..!!