احتشد الجماهير اليمنية بعدد من المحافظات في 25 و26 سبتمبر/ أيلول الفائت، لإحياء الذكرى ال 61 لثورة 26 سبتمبر 1962، وبرزت الحشود في كل من صنعاء، إب، والحديدة، وبقية مناطق سيطرة ميلشيات الحوثي الإرهابية المدعومة من إيران. بعد تسع سنوات من سيطرتها على العاصمة في 21 سبتمبر/ أيلول 2014. احتشاد الجماهير كان بالدرجة الأولى يمثل الشريحة الأصغر عمرا في اليمن، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15-25 سنة، ثم بقية الشرائح. في حين كان خروج النساء ملفتا وبكثافة عالية، بل شمل العائلة كلها، من الأطفال، والفتيان والشباب والرجال وكبار السن من الجنسين، وهذا الخروج لافت. واجهت مليشيا الحوثي المظاهرات بالقمع إطلاق النار والرصاص الحي، وخطفت من صنعاء أكثر من ألف متظاهر، ودنست العلم الجمهوري تحت أقدامها، ولا توجد إحصاءات دقيقة عن أعداد المخطوفين والسيارات التي تم احتجازها من قبل ميلشيات الحوثي، التي كانت في حالة استنفار أمني غير مسبوق.
حشود غير متوقعة ففي 26 سبتمبر الفائت، تجمع مواطنون في أكثر من 30 حي وشارع عام وسط العاصمة صنعاء، ويقول الشاب "عبد العالم منصور" – أحد سكان صنعاء – "كان شبان يخرجون في أي موقع ازدحام الناس (الجولات، الاسواق) يهتفون ويلوحون بالعلم الجمهوري ويحتشد الناس معهم بشكل تلقائي". لم يكن الحوثيون يتوقعون هذه الحشود ان تتوسع أكثر، والتي كانت بالتزامن مع احتفالاهم الاستعراضي بالمولد النبوي، وبدا ذلك واضحاً من خلال حملة الشتيمة والقذف، التي أطلقتها وسائل اعلامهم ضد النساء اللاتي شاركن، والحديث عن استهداف ما أطلق عليه زعيم الميلشيات التغيير الجذري، حيث كشف عن أزمة داخلية تعيشها الميلشيات.
في تعريف ما حدث؟ هنا نطرح تساؤل هل ما حدث هو احتفال شعبي تلقائي بذكرى ثورة 26 سبتمبر فقط؟ بالطبع ستكون الإجابة ب"نعم". لكن كيف نقرأ الزخم المتصاعد لهذه الاحتفالات التي بدت وكأنها "انتفاضة شاملة" وحالة غضب شعبي غير مسبوق. ومع قراءة معمقة ندرك أن حالة الرفض في أوساط المواطنين لم تعد قابلة للحصر، إنها حالة جماعية تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة.
ردا على سياسة حوثية ويرى الباحث ايمن نبيل "أن الخروج الشعبي في مناسبات تحرج الحوثي ولا يستطيع قمعها، مثل ذكرى 26 سبتمبر، والجنازات، وحفلات الزواج والتخرج، تأتي ردا على سياسة حوثية إيرانية تعتمد تشفير الرموز لصنع هالة من القداسة عليها".
من جانبه قال الكاتب محمد العلائي "يعرف الشعب ما يريد الحوثي من فعاليته، ويعرف الحوثي ما يريد الشعب". وقال - في منشور بصفحته على "فيبسوك"- "أنتم (الحوثيين) من أراد هذا الصراع صراع وجود، فاستجاب الشعب ورد على هذا الصراع".
ثم إن المظاهرات بهتافاتها "جمهورية جمهورية" و "بالروح بالدم نفديك يا يمن"، إنما هو رد صريح وواضح على محاولات الحوثي وإيران نقل التجربة الإيرانية إلى اليمن، عبر التغييرات الجذرية، وحتى هذا المفهوم كما يقول الصحافي عدنان الجبرني "هو مفهوم إيراني أعلنه الخميني 1980، وبالتالي الرد على هذه المحاولات والسياسات لا تندرج في إطار المطالب الإصلاحية أو الحقوقية" ولفت "أن الرد الحوثي عليها وقمعها بالرصاص الحي وقطع الطرقات، وخطف أكثر من ألف شاب، وتدنيس العلم وتمزيقه ليست سوى سلوك احتلال بغيض".
من جانبه أشار المحلل السياسي عبد الهادي العزعزي إلى "أن راية العلم الجمهوري كان يحملها أحد المتظاهرين بعد شق رأسه وسيلان دمه إلى شعور بالكرامة، فهي إذن صراع أو مرحلة حاسمة من الصراع اليمني ضد الاحتلال الإيراني بكل مستوياته التي تبدأ عند أهداف المرشد ومن معه، ولا تقف عند أصغر مشرف حوثي في حارته".
انتفاضة وأضاف في حديث ل"الصحوة نت"، "وبالتالي فإن أقرب توصيف لما حدث هو انتفاضة، وليس مجرد احتفالات أو تظاهرات تطالب بالإصلاح ولا حتى استفتاءات شعبية رافضة للحوثي، ولأنها ذات طبيعة سلمية ضد جماعة إجرامية فإن توقيتها ووسائلها وصورها وزمانها مرتبطة بها وستمتد وقتا أطول".
هوية إيرانية تنفجر الانتفاضات فجأة نتيجة تراكم الغضب، بعد ذلك أصغر شرر يفجرها، رغم أن أهم الأسباب التي أدت إلى حالة الرفض الكبيرة ضد الحوثيين في مناطق سيطرتهم، هو شعور المواطنين بالإهانة تجاه مكتسباتهم بشكل علني، في استعراض الحوثيين بهوية إيرانية بحته، ففي الوقت الذي تهرول للتفاوض مع السعودية تحاول تقديم رسائل إرهاب ضد اليمنيين. ونظمت ميليشيات الحوثي عرضا عسكريا كبيرا، بهدف إرهاب الداخل، ولم يكن موجها للخارج مع استمرار المفاوضات وحالة الهدنة، في العرض العسكري الذي تضمن مجسمات لمختلف أنواع الأسلحة الإيرانية، مع طقوس إيرانية، أكد لليمنيين أنهم واقعين تحت احتلال إيراني مكتمل الأركان يستعرض قوته لإرهابهم ومسخهم بالقوة والقسر، وبالتالي شعر المجتمع على أن التهديد موجه ضده. من ناحية أخرى، دعا القيادي الحوثي الذي يرأس المجلس السياسي للميلشيات، مهدي المشاط، إلى التصالح مع تاريخ الإمامة، وشن هجوما حادا على ثورة 26 سبتمبر وقال إنه "يوما للسب والشتم والتهريج، والدعايات العنصرية والتفرقة والغرق في الأحقاد والهدم والتفريق". الأمر الذي التقطه الشعب في الشارع على أنه إهانة بالغة للجمهورية التي جعلت اليمنيين تحت حماية الدستور والقانون وثقافة المؤسسات.
لم تكن كلمة "المشاط" الا تأكيدا عن استمرار ميلشيات الحوثي في انتزاع الهوية اليمنية الجمهورية بشكل علني، وتدجين المجتمع بالقوة على هوية طائفية مستوردة تحاكي نموذج إيران، بسلطة تدعي الجمهورية لكنها دينية مغلقة ومتطرفة تجاه التنوع والاختلاف. ويقدم الحوثيون ما يسمى ب"الهوية الايمانية" كمشروع ثقافي قمعي يرهب الناس ويعطيهم توجيهات أخلاقية ودينية. لم يكن التدين يوما مسألة حادة عند اليمنيين تاريخيا، منذ القدم، ويقول عبد الهادي العزعزي: "في بعض المراحل التأريخية قديماً، كان في اليمن عدة آلهة ومعابد مقدسة، واعتنقوا الأديان السماوية بعد أديانهم المحلية ومنها الإسلام دون حرب، بينما يريد الحوثي نسف آلاف السنوات من التاريخ اليمني في التعامل مع الدين وفرض عقيدة الحوثي كدين قسرا على الشعب اليمني". من جانب آخر، اعتبر الكاتب أيمن نبيل "إن فرض الطقوس الإيرانية، وإصرار الحوثي في كل كلماته وسياساته على فرض القرشية على شعب يؤمن بهويته اليمنية، وقوميته العربية، بينما لا تخلو خطب الحوثي المملة والمقيتة على التأكيد على اندماجه الكامل في محور إيران، بجميع أبعاده وأهدافه".
حصار حوثي بالعداء ومع استمرار الهدنة منذ أكثر من عام، وبروز مؤشرات انتهاء العمليات العسكرية للتحالف العربي، وسياسة العداء الحوثية تجاه المحيط العربي، بدأ المجتمع يتحسس طاقته ومكامن قوته الذاتية، وعلى رأسها الطبقة التجارية، أحد أهم صانعي التفاعلات في اليمن بمختلف أنواعها. وفي كل مراحل التأريخية عمل اليمنيون بالتجارة، لذا يرفضون معاداة الجوار لأن ذلك يلحق بهم خسارات وتنهار تجارتهم، لكن الحوثية جاءت لتكرس العداء وتنقله من مستواها كجماعة إيرانية، إلى مستوى الدولة والشعب كله، ثم عادت لفرض الطبقية ومزقت المجتمع، وهذه الثقافة تحد من التطور الاقتصادي، ويمنع نشوء علاقة استراتيجية بالجوار العربي وحتى القرن الأفريقي.
وهذا يهدد أيضا مصالح المغتربين في السعودية والخليج والقرن الأفريقي وغيرها، أي أن سياسة العداء الحوثية تمتد آثارها خارج مناطق سيطرتها، وليس ذلك فقط بل عمدت على محاصرة الطبقة الوسطى من الموظفين اليمنيين والتجار بشتى السبل وقطع المرتبات، واستولت بالقوة الغاشمة على مراكزها ومؤسساتها وأعاد إنتاجها بقيادة هاشمية من خارج المؤسسات الرسمية ومن خارج القطاع التجاري، فأصبح وافدا غريبا عليها بالقوة والانتقام، مما جعل الذين رضخوا للحوثي في مواجهة مع مصيرهم المجهول بلا أفق للمشاركة.
ضرب القبائل بدأت ميلشيات الحوثي تدريجيا التخلص من شراكتها مع القبائل التي قاتلت معها، وبدأت في محاربتها وعملت على سلب مصالحها التي اكتسبتها من عملها مع الدولة وحصلت على امتيازات منها بعد إعلان الجمهورية، وهذا صنع شعورا عاما في أوساط القبائل بالخطر، بعد سلسلة من الحملات التي تستهدف تجريدها من أهم قواها بالسيطرة على عقاراتها وإهانة رموزها. ورأى المحلل السياسي عبد الهادي العزعزي "أن الدولة في ذهنية اليمني منذ فترة طويلة أشبه بالدولة الأموية، التي اعتمدت على القبائل وحين تخلت عنها سقطت، وليست كروما التي اعتمدت على العبيد في جيشها، وبالتالي لم يعد للقبيلة اليمنية مصلحة في بقاء الحوثية". مع هذه الفجوات، هناك سبب آخر صنع فجوة واسعة، ربما حتى عند أتباع الحوثي حالياً وسابقاً، في بقاء زعيم الميلشيات عبد الملك الحوثي في مخبئ سري لا يلتقي أحد. ولأن اليمني يريد أن يقابل من يحكمه، وأن يصل إليه، ويكره أن يكون تابعا لشخص لا يراه ولا يعرفه، وهذا خلق اشمئزازا وكراهية حتى بين أتباعه رغم كل حالة القداسة التي تحاكي الطريقة الإيرانية. ورغم عدم وجوده عملياً على الأرض، يمتلك زعيم الميلشيات كل الصلاحيات والسلطات دون أي مسئولية، وحتى إذا قبل بعض أتباعه بهذا الموقف لسبب أو لآخر، فإن مناخات اليمن التي تعد العامل الأساس في تنوع اليمن، متعددة وبالتالي تعاظم الرفض لهذه العلاقة وطريقة الحوثي في الحكم "فكرة الحكم للإمام الغائب".
تباعا لغياب الحوثي واحتكاره للسلطة والصلاحية، عمد بقية قادته إلى ممارسة نفس الدور في صنعاءوالمحافظات، لكنه امتد بشكل مباشر إلى المؤسسات العامة، والخاصة، واحتكروا بأسماء شخصيات منهم، وعمدوا أيضا على استهداف القطاع الخاص، دفعت بالمجتمع إلى الخوف من السطو الذي أصبح يطال الجميع وحماية أنفسهم من خلال رفض ذلك. عمد الحوثيون لممارسة لعبة خطرة بضرب التراتبية الاجتماعية القائمة منذ فترة طويلة، أثناء محاولاتهم اختيار القيادي القبلي التابع لهم، أمين عاطف شيخا لقبائل حاشد، على أن تكون مصدر قوته ومشيخته ليست القبيلة، إنما علاقته وخدمته للحوثيين، وهذا استهداف مباشر للقبيلة وتماسكها القائم على الاعتداد بالنسب. إلى ذلك كان كل من غادر مناطق سيطرة الحوثي من القيادات السابقة في الدولة والأحزاب والجيش والتجار وغيرهم من رموز الطبقة المتوسطة إلى الاحتفاظ بمواقعهم، أو على الأقل الاحتفاظ بالحد الأدنى من العيش الذي يحفظ كرامتهم ومصادر رزقهم، بينما ساءت أوضاع من بقوا بمناطق سيطرة الحوثيين إلى حد كبير، مع شعور يجثم على صدورهم بالذل والمهانة وفقدان الحياة الكريمة. وأدى التركيز الحوثي عسكرياً وثقافياً واقتصادياً على مأرب وتعز، أوصل رسالة للذين تم تهجيرهم من صنعاء وبقية المحافظات، أن الحوثيين يريدون أن يلاحقوهم حتى إلى مناطق نزوحهم من أجل إذلالهم، بينما يشعر أقاربهم وقبائلهم أن الحوثي يلاحق أبناءهم حتى وهم مهجرين قسرا، بغية إذلال القبيلة في معاقلها وإشعارها بالذل والضعف والعجز.