(1) عرفنا في الأسبوعين الماضيين أن كون نظام ما ليبراليا علمانيا لا يتناقض مع النص على وجود دين رسمي للدولة في الدساتير، ولا مع السماح بنشاط الأحزاب الدينية وسعيها للوصول إلى السلطة لتنفيذ برامجها ومنها ما هو مستمد من مرجعيتها الدينية. واليوم نختم هذه الخواطر بالمسألة أو المحرم الممنوع الثالث لدى الكثيرين من العلمانيين العرب وهو إقصاء الشريعة الإسلامية عن أن تكون مصدرا للتشريع وحيدا أو رئيسا أو أحد المصادر؛ باعتبار أن ذلك يتناقض مع فكرة الديمقراطية والليبرالية أو الدولة المدنية بسبب وجود تعددية دينية في معظم –إن لم نقل كل- بلدان العالم! (2) وفي البدء لا نكون متجاوزين إن قلنا إن تعامل العلمانيين والعرب بفصائلهم المتعددة مع الشريعة الإسلامية يبدو قاصرا وعديم الوطنية، لأنه أولا/ يتعمد تجاهل تراث قانوني ضخم لا مثيل، خضع لحكمه مئات الملايين من البشر عاشوا في مجتمعات إنسانية متنوعة الثقافات، وعلى امتداد هائل من الكرة الأرضية، ولمئات من السنين.. وخلال كل ذلك لم تجد تلك المجتمعات أن ما بين يديها من التشريعات الإسلامية قاصرة عن تلبية احتياجات الإنسان، سواء مما هو موجود في نصوصها أو مما أمكن الاجتهاد له وفق قواعد الشريعة الإسلامية نفسها. ولاشك أنه من القصور العقلي أن يشطب البعض على هذا التراث القانوني بجرة قلم لمجرد أنه نابع من الدين الإسلامي.. بينما نجد مجتمعات ليبرالية علمانية لا علاقة لها بالإسلام لا تجد حرجا من الاستفادة مما يوجد في الشريعة الإسلامية من قوانين إن وجدت فيها مصلحة أو خيرا لها! وأبرز مثال على ذلك هو إقدام عدد من الدول غير الإسلامية على السماح بتقديم خدمات مصرفية على الأسس الاقتصادية المعروفة في الإسلام مثل عدم التعامل بالربا، وعدم الإتجار في مجالات محظورة مثل الخمور والمواد الإباحية، والتبغ، ولحوم الخنزير! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا الأمر أكثر من مرة، ولا بأس من أن نذكر أن دولا مثل إيرلندا، والفلبين، والهند، وبريطانيا سمحت بالمعاملات المصرفية المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ بل حتى فرنسا –عدوة النقاب والحجاب والرموز الدينية- هرولت لدراسة إمكانية تعديل الإطار القانوني والمالي ليصير متناسبا مع إصدار سندات إسلامية للحاق ببريطانيا وللاستفادة من هذه الصناعة التي تقدر تعاملاتها بنحو تريليون دولار. ومهما تكن دوافع هذه الدول إلا أن الشاهد هنا أنها تعاملت مع المبادئ الاقتصادية الإسلامية تعاملا منفتحا لتحقيق مصالح لشعوبها، ولم تتقوقع في حفرة كراهية كل ما له علاقة بالدين. (3) وأما أن موقف الرفض العلماني العربي للشريعة الإسلامية عديم الوطنية والتقدمية؛ فلأنه يعادي تراثا قانونيا ظهر ونما في مجتمعاتنا العربية لمصلحة قوانين مجلوبة من الغرب الذي استعمر الوطن العربي وأذل شعوبه وفرض عليهم الفقر والتخلف من قبل ومن بعد.. ومن المفارقات المثيرة للحسرة أن نجد تقدميين غلاة معادين للإمبريالية ثم هم لا يجدون غضاضة من ربط مجتمعاتهم قانونيا ببلاد الاستعمار والإمبريالية وكأن نشؤ القوانين فيها منثبتا عن الطبيعة الاستغلالية لها.. بل هم يعادون شريعة دين قامت على أسس من العدل والإنصاف كما يعترف كثير منهم وهم يصفون الإسلام بأنه دين تقدمي! (4) وقائع الحياة في المجتمعات الليبرالية العلمانية تؤكد أن إقصاء الدين عن مقام التشريع ليس أمرا لازما.. وتشير بعض الدراسات إلى أن الكثيرين من السياسيين البريطانيين والألمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا يؤكدون على أن المسيحية جزء أساسي من القانون(!) فمثلا في دولة مثل مالطا نجد أنه رغم علمانيتها إلا أن ممارسة مثل الإجهاض محرمة بقوة القانون فيها مراعاة للعقيدة الكاثوليكية التي هي الدين الرسمي لها. وفي عهد بوش الابن أوقف التمويل الحكومي لأبحاث الخلايا الجذعية لقناعته بأنها أمر مخالف للدين. وفي دراسة له عن عالمية حقوق الإنسان يعترف د.سامي الذيب- وهو علماني متطرف في عدائه للأديان وكان مسؤولا عن القسم العربي والإسلامي في المعهد السويسري للقانون المقارن- أن الدول والمنظمات الغربية المعادية لختان البنات الشائع في بعض البلدان الإسلامية أحجمت عن اتخاذ موقف قانوني مماثل تجاه ختان الذكور خوفا من غضب اليهود الذين يعتبرون ختان الذكور جزءا هاما من معتقدهم الديني!! (5) الأنموذج الليبرالي العلماني المتعامل مع التشريعات الدينية في (إسرائيل) يؤكد كم أن هذه الدولة لا تمانع من اعتماد القوانين الدينية؛ فهناك مجالس حاخامية رسمية معترف بها قانونا على مستوى الدولة والمجالس المحلية تتلقى دعما من الدولة سواء لتسيير أعمالها الدينية أو لضمان تنفيذ القوانين الدينية؛ والدولة اليهودية تعترف بالقضاء اليهودي في مسائل الزواج والطلاق الذي يتم في محاكم حاخامية ملتزمة في أعمالها بقوانين (الهالاخاه) –وثيقة يهودية قديمة- اليهودية، وتعتمد المحاكم المدنية أحكامها! وفي مجالات أخرى شرعت الدولة اليهودية قوانين مستمدة من الشريعة الدينية مثل ما يتصل بقداسة يوم السبت، وتحديد الأعياد، والطعام اليهودي الشرعي المعروف باسم (كاشيروت). كذلك اعتمدت الدولة اليهودية رموزها الرسمية من وحي الدين اليهودي مثل نجمة داود السداسية والشمعدان، وتم اختيار ألوان العلم الإسرائيلي الأبيض والأزرق السماوي من وحي ألوان شال الصلاة اليهودي المعروف باسم (الطاليت) وامتد الأمر إلى الطوابع البريدية الرسمية.. وطبعا: كان إحياء اللغة العبرية هو أحد أبرز تجليات الارتباط بين الدولة والدين في إسرائيل! وفي الحكومة الصهيونية وزارة خاصة بالأديان تتولى تمويل والإشراف على الخدمات الدينية. التعليم الديني هو أحد أبرز مظاهر يهودية الدولة التي تموله وتشرف عليه، ويوجد في وزارة التعليم شعبة خاصة للتعليم الديني الرسمي، وقسم للثقافة التوراتية الأرثوذكسية، وقسم للعناية بموضوع: الوعي اليهودي في التعليم الرسمي! (6) تعليل رفض اعتماد الشريعة الإسلامية بوجود تعددية دينية ليس حجة حقيقية لأن الأقليات المسيحية –وهي المعنية بالكلام- لا يوجد في كتابها المقدس تشريعات وقوانين سوف تتضرر بالإقصاء في حالة اعتماد القوانين الإسلامية، ولأنهم يقولون إن ما لله لله وما لقيصر لقيصر فإن ذلك يعني قبول المسيحيين للنظام العام الذي تقره الدولة. وفي كل الأحوال فإن المسحيين المصريين الذين يشكلون أكبر كتلة من نوعها لا يطالبون إلا بمنحهم حق الاحتكام لشرائعهم في الأحوال الشخصية، وهو أمر مقر ومعترف به في القواعد القانونية الإسلامية إلى درجة أن بعض الفقهاء يبيح للأقليات ما أحل لهم في دينهم مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير! ووفقا للكاتب القبطي/صادق عزيز فإن كثيرا من أحكام الشريعة الإسلامية تتوافق مع شريعة التوراة التي يعتمدها المسيحيون ككتاب مقدس عندهم. وفي تصريحات للبالبا الراحل/ شنوده الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس لصحيفة الأهرام المصرية (6/3/1985) أكد (إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا كذلك في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد. نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: لهم ما لنا وعليهم ما علينا.. إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة فكيف نرضى بالقوانين الحكومية ولا نرضى بقوانين الإسلام).. مرجع سابق للدكتور محمد عمارة عن استغلال الأقليات. وهكذا.. فطالما لا يوجد حرج ديني لدى المسيحيين من العيش في ظل الأحكام الإسلامية للأسباب المذكورة.. وطالما أن الليبراليين العرب قبلوا بحكم الأغلبية وفق الممارسة الديمقراطية فما الذي يمنعهم من أن يجعلوا الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع مثلها مثل الشرائع الفرنسية والإنجليزية طالما اختارتها الأغلبية؟ وليس عليهم في ذلك أن يؤمنوا بأنها إلهية أو بشرية.. ولن تتأثر علمانيتهم ولن تخدش ليبراليتهم في شيء لأن هناك فرق بين العقيدة والشريعة؛ ففي العقيدة لا يوجد إكراه ويمكنهم الاحتفاظ بقناعاتهم لأنفسهم (أليسوا يقولون: الإيمان والكفر قضية خاصة في القلوب؟).. أما القوانين فهي تشمل الجميع: المؤمن بها والكافر بها كما يحدث في كل مجتمع: ديني أو علماني؟ ألا يلتزم المسلمون وغيرهم في الغرب بقوانين الأغلبية رغم مخالفتها لشرائعهم؟بل إنهم محرومون حتى مما صار حقا دوليا للأقليات في الوطن العربي أن تحتكم لأعرافها وتقاليدها البدائية والقبلية وأحكام شرائعها الدينية!