على خلاف الحزبين الحاكمين, المُنحَلّين, في كل من مصر وتونس, فقد ابتسم الحظ كثيراً لحزب المؤتمر الشعبي في اليمن. فمن جهة, نجا من مصير الحل والتلاشي الذي طال الحزب الوطني والدستوري في مصر وتونس, ومن جهة ثانية, ما يزال شريكاً في السلطة- رغم الثورة الشعبية التي اقتلعت رئيس الدولة والحزب- ولا يزال يحتفظ كذلك بمعظم مفاصل الدولة المدنية والعسكرية. وفي حين أممت ثورتا مصر وتونس كل أملاك الحزبين الحاكمين المُنحَلّين (الوطني، والدستوري), وأحالت رموزهما الكبيرة إلى القضاء, واستعادت بعضاً من أموال الشعب المنهوبة, إلاّ أن المؤتمر الشعبي في اليمن ما يزال يحتفظ في حسابه الخاص ب 400 مليون دولار, وفقاً لصحيفة مقربة من الحزب, وما يزال صالح نفسه يحتفظ ب 18 مليار دولار في أماكن آمنة داخل صنعاء وخارجها, وفقاً لمصادر صحفية محلية, عدا تلك المبالغ والاستثمارات الخارجية في أكثر من بلد. التعامل الحضاري الراقي للثورة الشعبية السلمية في اليمن وأحزاب المعارضة تجاه حزب ملطخ بالفساد طيلة ثلاثة عقود, ورغم ثبوت تواطئه- عبر حكوماته المتعاقبة وأغلبيته البرلمانية- في تمرير معظم صفقات الفساد الكبرى التي أضرت بصورة مباشرة بالمصالح الوطنية العليا, كصفقة الغاز, مثلاً, وصفقة تسليم ميناء عدن لموانئ دبي العالمية, وغيرها من صفقات الفساد التي تمتلئ بها تقارير جهاز الرقابة, والتي وصلت حداً لا يمكن تخيله إلاّ في بلد كاليمن, لدرجة السطو على طائرات الخطوط الجوية اليمنية, التي أختفت منها ثماني طائرات من أصل أربعة عشر طائرة هي حجم أسطول اليمنية!! هل سمعتم عن فساد وصل حد نهب الطائرات وملاعب كرة القدم والحدائق العامة وحتى الشوارع, إلاّ في اليمن؟! أقول, هذا التعامل الحضاري(المحكوم سياسياً) مع حزب فاسد قاد البلد إلى حافة الإنهيار, أبقى عليه, للأسف, كحزب قائم رغم عواصف التغيير, بل وشريك في السلطة, مستحوذاً على نصف حكومة الوفاق الوطني. ومع ذلك, يُصّر هذا الحزب على عدم إفساح الطريق أمام شركائه الجدد في مؤسسات الدولة, مصوراً الأمر وكأنه تعدياً عليه واستهدافاً له!! وحتى اللحظة, ما يزال يتعامل مع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية كحق حصري وملكية خاصة لا يجوز الإقتراب منها أو المساس بها. متجاهلاً ثورة الشعب التي أطاحت برئيسه, وجاحداً دور المعارضة في الإبقاء عليه كشريك في السلطة. وهو إلى الآن ما يزال متمرداً على ثورة الشعب, برفضه الاعتراف بها وبما أفرزته من نتائج سياسية, علاوة على تمرده ومحاولة التفافه على المبادرة التي وقّع عليها. فمن ناحية, يحاول الاحتفاظ بالرئيس السابق كرئيس للمؤتمر, ليوفر له مظلة الظهور والعمل السياسي, والتدخل الدائم في شئون الحكم. ومن ناحية ثانية, يتمرد- المؤتمر- على الرئيس هادي وحكومة الوفاق من خلال معارضة القرارات الصادرة عنهما, ووضع العراقيل أمامها, لتقويض العملية السياسية, وإحباط عملية نقل السلطة, وصولاً لإفشال الشراكة ذاتها, والعودة بالبلاد إلى حالة التفرد, كوهم لا يزال مسيطراً. وعوضاً من أن يمتنّ المؤتمر لموقف المعارضة المتمسك بالشراكة, ويغتنم اللحظة التاريخية لتعزيز وجوده, وإعادة بناء نفسه بمعزل عن إرث الماضي وتأثيراته, ويمضي في اتجاه المبادرة مع الرئيس هادي, الأمين العام للحزب, كخيار وحيد للمستقبل, إذا به يفضل خيار الماضي معلناً تحالفه معه. ومن ثم, راح يتمرد على رئيس الجمهورية إرضاء لرئيس الحزب! وهو موقف لا يعبر عن رؤية بقدر ما يعكس تشابك مصالح. حزب المؤتمر أن يمارس اليوم دورين نقيضين في آن واحد, فهو شريك في الحكم, إن لم يكن الشريك الأكبر, لكنه يحاول اللعب في ملعب المعارضة. لذا يعمد لمعارضة الحكومة والتحريض عليها علناً, في الوقت الذي يجهد لإحباط جهود الرئيس هادي, معلناً في الوقت نفسه تأييده له. وكمثال على ذلك, يقود المؤتمر حالياً حملة شعواء على رئيس الوزرء الأستاذ محمد سالم باسندوة, لتعيينه قائم بأعمال رئيس الجامعة بدلاً من رئيسها السابق الذي يرفضه أساتذة الجامعة وطلابها. وفي هذا السياق, نقلت مصادر صحفية أن اللجنة العامة للمؤتمر أقرت في اجتماعها المشترك مع الكتلة الوزارية الممثلة للمؤتمر في حكومة الوفاق، رفض التعيينات الأخيرة التي صدرت بقرارات جمهورية, وكذلك رفض قرارات رئيس الحكومة التي تندرج تحت إطار قانون التدوير الوظيفي، معتبرين تنفيذ هذا القانون يهدف إلى عملية اجتثاث وإقصاء واسع النطاق لكوادر وقيادات المؤتمر الشعبي العام. المصادر ذاتها أشارت إلى أن الاجتماع المشترك بين اللجنة العامة وكتلته الوزارية أقر أيضاً توسيع عملية التنسيق والمشاورات لتتجاوز حلفاء المؤتمر لتشمل أي جماعات أو تكوينات أو منظمات مناهضة لحكومة الوفاق وأحزاب اللقاء المشترك، كما أقر الاجتماع إغلاق باب النقاش حول عملية الإصلاحات الهيكلية والتنظيمية المؤتمرية، وإغلاق باب الحديث عن مغادرة صالح للبلاد، بالإضافة إلى توجيه وسائل الإعلام المؤتمرية والحليفة للتصعيد ضد الحكومة وأحزاب المشترك، وضد العملية الانتقالية للسلطة. كل ذلك مؤشر واضح على أن المؤتمر قرر لعب دور المعارضة ضد حكومة الوفاق, والمشترك الذي قبل به شريكاً في السلطة. في اتجاه آخر, ما يزال المؤتمر يتمرد على سلطة الرئيس هادي وإن بصورة غير مباشرة, فمثلاً, دفع بلاطجته لعدم ترك مواقعهم في ميدان التحرير, على الأقل لحين الانتهاء من الإحتفال بإيقاد شعلة سبتمبر, في الوقت الذي اعتبر مسألة إيقاد الشعلة خارج ميدان التحرير بمثابة تنكر لدماء شهداء الثورة وأهداف سبتمبر!! كما دفع المؤتمر- بطريقة غير مباشرة- أعضاءه ومناصريه في لجنة الحوار للتمرد على قرار الرئيس الأخير بإضافة ستة أعضاء إلى قوام اللجنة, وإعلان رفضهم للقرار. وتمرد المؤتمر على قرار هادي بتعيين محافظين جدد, وذهب يفتعل صدامات ومواجهات قبلية هنا وهناك لإفشال تلك التعيينات والتحريض عليها. ويتمرد المؤتمر كذلك على مشروع الرئيس هادي وخطته المدعومة محلياً ودولياً في إعادة هيكلة الجيش, وإصدار قانون العدالة الإنتقالية الذي يعارضه المؤتمر بشدة. والواقع أن من حق الرئيس هادي ممارسة صلاحياته كرئيس دستوري منتخب, متحرراً من وصاية حزبه. لكن المؤتمر يحاول ابتزاز الرئيس والمشترك من خلال اتهامهما بالمحاصصة, التي يدّعي أن المشترك يسعى إليها بالتنسيق مع الرئيس هادي, أي أن هذا الأخير يتآمر على إقصاء حزبه, ويعمل على إحلال عناصر المشترك محل كوادر الحزب. وهذا محض كذب وتلفيق, وتزييف للحقائق. فالمؤتمر يريد الاحتفاظ بطاقمه كاملاً في كل مؤسسات وقطاعات الدولة دون أي اعتبار لمسألة الشراكة التي فرضتها المبادرة, وجعلت منه أحد شركاء التسوية, لا كحزب حاكم كما بالأمس. أضف إلى ذلك, فمن حق جميع الأحزاب مزاحمة المؤتمر في كل قطاعات ومؤسسات الدولة, على اعتبار أنها ملك الشعب وليس المؤتمر. وبالتالي على المؤتمر أن يفهم أن الشمولية والاستحواذ على كل شيء ولىّ زمانها, وأنه لا وجود للمحاصصة, بل ثمة مشاركة سياسية داخل فيها الجميع, وهي تفرض عليه إفساح المجال لشركائه في مؤسسات الدولة, مثلما أفسحوا له المجال في حكومة الوفاق, وإلاّ ماهي الشراكة السياسية التي يفهمها؟ وماذا تعني المبادرة لديه؟ وبغير ذلك فهو يمارس تمرداً على النظام السياسي الشريك فيه, وهذا تماماً واقع حاله اليوم.