دون مقدمات نبحر مباشرة مع المفكر العراقي عماد الدين خليل وهو يتساءل: هل نستطيع ونحن نعيش ذكريات الهجرة النبوية الشريفة سنة بعد أخرى، أن نجعل حلقات السيرة حقلاً للاكتشاف؟ أن نجتاز دروبها وساحاتها فتمنحنا الدهشة، والإعجاب، وتفجرّ في عقولنا وأرواحنا جداول الحب.. والعشق.. واليقين.. أن تكهرب أوصالنا، بمفرداتها المتألقة، فتضعنا وجهاً لوجه قبالة الحقائق الإنسانية العارية التي لم يرِن عليها صدأ، ولا اعتراها زيف أو تزوير؟ في علم الجمال معروف أن الإلف والاعتياد يقتلان الدهشة، ويطمسان على ألق الحقائق والتجارب والأشياء تتفقد بمرور الوقت قدرتها على الإثارة والانبهار.. فماذا لو حاولنا كسر الطوق، وتجاوزنا حصار الإلف والعادة، وتسطحّها باتجاه العودة كرّة أخرى إلى مواقع الدهشة والإعجاب والانبهار؟. المنجزات الحضارية للهجرة النبوية: سنحاول في هذه التناولة التقاط بعض تأملات عمالقة الفكر الإسلامي حول الهجرة النبوية ونعود إلى عماد الدين خليل لنعدد معه منجزات الفعل الحضاري الذي جسده مشروع الهجرة النبوية من خلال بناء مجتمع جديد في المدينة النبوية كانت أبرز معالمه الحضارية هي تحقيق الهجرة من الشرك إلى التوحيد، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن العرف إلى التشريع، ومن التقاليد إلى المؤسسة، ومن العشيرة إلى الأمة، ومن التخريب والإفساد إلى الإصلاح والإعمار، ومن الخرافة والظن والهوى إلى المنهج العلمي القائم على التخطيط والوعي، ومن الجهل والأمية إلى المعرفة. إنسان جديد لمجتمع جديد لحضارة جديدة: ويرى عماد الدين خليل أن هذا المجتمع الجديد كان نتاج الإنسان الجديد الذي أوجده الإسلام. الإنسان المسلم الجديد الملتزم بمنظومة القيم الخلُقية والسلوكية المتجذّرة في العقيدة، في مواجهة الجاهليّ المتمرس على الفوضى والتسيّب وتجاوز الضوابط وكراهية النظام. وكانت آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعاليمه قد أرستْ جملة من القيم المنهجية وآليات العمل التي مهّدت للمتغيرات الآنفة الذكر ودعمتْها، ووضعت إلى جانبها شبكة من الشروط هيأت المناخ الملائم للفعل الحضاري، ومن بين تلك القيم والآليات: المعرفة هي حجر الزاوية. النزوع إلى الأمام. التحذير من هدر الطاقة. مبدأ الاستخلاف. مبدأ التسخير. التحفيز على العمل والإبداع. مجابهة التخريب والإفساد. التوازن بين الأضداد والثنائيات، وتوحدها. التناغم والوفاق مع الطبيعة والعالم والكون. تحرير الإنسان والجماعات والشعوب على المستويات كافة . ويؤكد عماد الدين خليل أن الإسلام جاء لكي يتحرك وفق دوائر ثلاث: تبدأ بالإنسان وتمر بالدولة وتنتهي إلى الحضارة التي سيقدر لها أن تَنْداح لكي تغطي مساحات واسعة من العالم القديم. لقد كان هدف الجهد النبوي في عصر الرسالة هو التأسيس لحضارة إيمانية تستمد منهجها ومفرداتها من هدي الله سبحانه، وتقوم على لقاء الوحي بالوجود، لصناعة المشروع الحضاري الملائم للإنسان ووظيفته التعبدية والعمرانية و المتوازن في مواجهة حضارات الميل والانحراف. ويختم عماد الدين خليل تأملاته بالتأكيد على أن عصر الرسالة كان منجما سخيا للعطاء وما ذاك إلا لما حققه هذا العصر من تغيير جذري محليا وإقليميا وعالميا، وعلى كل المستويات، ولما انطوى عليه من قيم وخبرات تملك القدرة على الفاعلية والحضور في كل زمان ومكان. إشراقة جديدة للتاريخ الإسلامي: وفي سياق متصل يؤكد المفكر الإسلامي على عزت بيجوفيتش ان الهجرة النبوية تعني لتاريخ الإسلام ما يعنيه شروق الشمس للطبيعة، لأنه على الرغم من إسفار فجر الإسلام عن تلك الليلة في مكة عندما نزل الوحي الأول، فإن الشمس لم تشرق بكل ضيائها إلا في المدينة، فمع الهجرة تحول الإسلام من حركة روحية محضة حتى تلك اللحظة إلى جماعة إسلامية، ليتحول منها إلى بدايات تكوين المجتمع والنظام والدولة. ويؤكد بيجوفيتش أن الهجرة لم تكن فراراً بل تكتيكاُ للعودة فقد هاجر المسلمون من مكة، ولم تمض ثمان سنوات حتى عادوا إليها فاتحين منتصرين، فحوّلوا قبلة الشرك والخرافة إلى القبلة العالمية لدين الله الحق، وعند خروجهم من مكة تحت ضغوط المشركين كانوا أقوياء روحيا، ولكن ضعفاء ماديا، وعندما عادوا إلى مكة كانوا أقوياء روحيا وماديا، ويقرأ بيجوفيتش على ضوء ذلك رسالة الهجرة التي يراها واضحة: إنهم يهاجرون، لا ليهربوا مثل الوحوش من الصيادين، ولكن ليستعدوا للعودة، هذه هي الهجرة الحقيقية. ويتفق بيجوفيتش مع عماد الدين خليل أن لهجرة كانت بداية حضارة جديدة مؤكداً ضيق المجال لذكر كل التحولات العظيمة التي حدثت بعد ذلك على مسرح التاريخ في العالم .فقد انهارت أكبر دولتين إلى الأبد، ونشأت مدن جديدة، واجتاحت العالم نهضة أخلاقية هائلة، واكتشف الإنسان مجالات جديدة في عالم المعرفة، وبإيجاز شديد نشأت حضارة جديدة. ويرى بيجوفيتش أن من الضرورة التأكيد هنا أن بذرة هذه الحضارة الجديدة كانت تلكم العصبة القليلة من المسلمين، التي هاجرت سنة 226م إلي المدينة، وأنه لم تكن في العالم كله آنذاك جماعة تتساوى معها وترتقي إلى مستواها، إنها كانت تحمل في قلوبها الإيمان الخالص بالله، وكانت كل قوتها في هذا الإيمان، في هذا الإيمان وحده. درس التضحية في سبيل الرسالة ويرى بيجوفيتش أن سؤال الهجرة الذي يفرض نفسه على كل مسلم :هل سأجاهد من أجل الإسلام، أو سأكتفي بالتفكير في أموري الشخصية فقط؟ ما كان يعنيه سؤال الخروج إلى الهجرة أو البقاء بالنسبة لأحد الصحابة ويذكر التاريخ أن بعضهم اختار البقاء فإنه بالنسبة لي اليوم يعني: هل سأعمل لخير ومستقبل الإسلام، أو لمنفعتي الخاصة، لخير أولادي فقط أو لمستقبل أطفال العالم؟ إننا جميعا نقف كل يوم أمام تساؤلات الهجرة، ويبقى السؤال كما هو، ولكن الأجوبة تختلف، على كل واحد منا أن يجيب، أمام نفسه وأمام الله، عن السؤال هل هو مسلم حقا؟ إن أجوبة صحابة الهجرة على هذا السؤال معروفة، إلا أنهم لن يجيبوا بدلا منا، بل يجب أن نجيب نحن بأنفسنا، ولكنهم قدموا لنا أروع مثال، وهذا المثال هو الهجرة. الهجرة إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب: وفي السياق ذاته يؤكد الشيخ محمد الغزالي أن الهجرة كانت إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب وأن الذي يقطع تذكرة للسفر لمكان ما لا يخامره شك في أن المكان موجود، وأن القطار ذاهب إليه، ولقد كانت ثقة المهاجرين بالغيب مثل ثقة غيرهم بالمحسوس، وعندما يرتفع الإيمان بالغيب إلى هذه القمة فإن أصحابه لا محالة منتصرون، ومكتسحون ما يضعه المبطلون أمامهم من عقبات ومعطلات والمستقبل الذي تنتظر فيه الرسالات إما قريب وإما بعيد: فأما القريب ففي الدنيا على أرض الميدان، وأما البعيد فعند الله في الآخرة حينما تجزى كل نفس بما كسبت. والمهاجرون الأوائل لم تنقصهم ثقة بمستقبل أو إيمان بغيب إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه، وثبتوا على صراطه المستقيم على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن، من أجل ذلك هاجروا لما اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم. ويؤكد الشيخ الغزالي ما أشار إليه بيجوفيتش أن الهجرة ليست تخلصاً من فتنة أو فراراً من أذى، وإلا لم يكن هنالك مبرر للمكث ثلاثة عشر عاماً في هذا الجو الملبد بسحب الكفر والاضطهاد إن الذي يبرر هذه المدة هو تمهيد المؤمنين بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن ذهب إليه مصعب بن عمير ليستتبع الناس ويستقطبهم للإسلام، ذلك أن إقامة الدين في مجتمع مكة أضحى دونه خرط القتاد لما اتصف به من عناد وجبروت فلم يك يصلح لهذا الفكر، والدعوة مازالت وليدة غضة طرية والمسلمون قلة مستضعفة، فلم يكن هنالك بد من التهيئة للدين في مكان آمن، عندئذ يقوى المسلمون وتشب الدعوة. ويعلق الغزالي: «ولا شك أن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه وأصبح ترك المدينة - بعد الهجرة إليها - نكوصاً عن تكاليف الحق وعن نصرة الله ورسوله، فالحياة بها دين لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها.