كثيرون يظنون أن أخطر مشاكل اليمن هي مشروع الانفصال في الجنوب، أو المشروع الطائفي في صعدة، أو عنف القاعدة وجرائمها، أو بقايا النظام السابق.. أو حتى تخلف التنمية، وربما نضوب البترول والماء! وأقر أنني كنت من هؤلاء حتى قرأت حوار الميثاق مع د. يحيى الشعيبي الذي تناول فيه عددا من قضايا مؤتمر الحوار الوطني. ويبدو أن الحوارات التي تتم في رمضان تتأثر في الغالب بشيء من.. متاعب السهر والصيام.. فما بالنا لو أنها تتم في أجواء الانقلاب المصري الذي يفرض على اليمنيين إما مشاهدة القنوات المؤيدة للانقلاب أو المعارضة له ومن ثم التأثر بالقصف الإعلامي لهذه القناة أو تلك! الخلاف الذي حدث في مؤتمر الحوار حول الهوية الإسلامية للدولة وتحديد مصدر التشريع فيها: وهل تكون الشريعة الإسلامية المصدر الحصري أو المصدر الرئيسي؛ ذلك الخلاف كان بالضرورة محور الحوار الميثاقي مع الشعيبي، وأعادنا د. الشعيبي – وهو يدافع عن موقف المؤتمر المؤيد لصيغة: المصدر الرئيسي- اثنين وعشرين عاما إلى الوراء عندما جرى الخلاف نفسه في الفترة الانتقالية بعد الوحدة.. ويومها كان المؤيدون لصيغة المصدر الرئيسي يبررون موقفهم بأن اعتماد صيغة المصدر الرئيسي أفضل لأن حصر التشريع بالشريعة الإسلامية يفوت مصالح مهمة على الامة؛ لأن الشريعة الإسلامية لا يوجد فيها قوانين تناسب المستجدات العصرية.. ويومها كان المثال الوحيد الذي يضربونه تأكيدا لحجتهم هو: قانون المرور.. فحسب فهمهم فطالما أنه لا يوجد في الشريعة قوانين مرور فالبلد إذن يكون بحاجة لقوانين مرور مأخوذة من الغرب، ومن ثم لا يجب أن نزنق أنفسنا بصيغة الشريعة المصدر الوحيد أو مصدر جميع القوانين. ويومها كتبنا في الصحوة مقالا بعنوان: القانون الأعظم.. سخرنا فيه من منطق هؤلاء الذين يتجاهلون أن اليمن (الشمالي) في ظل (الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعها) أصدرت قانونا للمرور، ومثله الكثير من القوانين التي لا توجد في كتب الفقه.. ولم يقل أحد يومها أن النص الدستوري منع اليمن من الاستفادة من قانون أوروبي أو صومالي! سبحانك ربنا: المؤتمريون مشغولون بقانون المرور لأنه في زعمهم ليس من الشريعة الإسلامية، ومن أجله يريدون تغيير موقع الشريعة الإسلامية في الدستور كمصدر لجميع التشريعات إلى المصدر الرئيسي حتى يتمكنوا من إصدار قانون مرور (مع أنه موجود وصيغ بأيد مؤتمرية، ولم تجد فيه لجنة تقنين الشريعة شيئا يخالف الإسلام .. لكنه الخوف نفسه الذي جعل عادل إمام يدفع فاتورة الهاتف خوفا من قطع الخدمة عليه رغم أنه ليس لديه تلفون أًصلا!).. وقبل أسابيع أصدرت هونج كونج أو سنغافورة قوانين اقتصادية مستنبطة من الشريعة الإسلامية للعمل بها في نظامها المصرفي، وقد ذكرنا في هذه الصفحة أمثلة عديدة على دول غير إسلامية (وغير مؤتمرية) ومع ذلك أصدرت قوانين اقتصادية وفق فقه المعاملات الإسلامية ومنها بريطانيا وإيرلندا والفلبين! هل عرفنا الآن الفرق بين دول متقدمة وبين دول مشغولة بقانون المرور؟
[2]
الحقيقة أنني فوجئت أن الإخوة في المؤتمر الشعبي بقيادة د. الشعيبي هم الذين يتبنون هذا المنطق الجاهل بمصادر التشريع الإسلامي ومعانيها، وكيفية استنباط الأحكام بواسطتها، وخاصة أن لديهم فقهاء وخطباء ووعاظا لم تحظ بمثلهم حتى إمارة طالبان في أفغانستان.. ويخطر ببالي الآن أنهم هم الذين سوّقوا لتلك الاعتراضات أيام الخلاف حول مشروع دستور الوحدة، وجعلوا الآخرين يتبنونها.. أي أنهم أكلوا الثوم بأفواه الآخرين! وقد نفهم أن مجموعات علمانية أو يسارية متطرفة تعارض النص على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعها في اليمن اتساقا مع موقفها الأيديولوجي من الدين؛ لكن أن يتبنى ذلك المؤتمريون فهي انتهازية ونوع من الدحبشة السياسية للأسباب التالية: أولا/ لقد حكم المؤتمر الشعبي العام البلاد في ظل النص المتحفظ عليه (ولا أقول المرفوض) دون أن يجد عقبة تعوقه عن التحديث وتطوير البلاد وصولا إلى تخريبها، وصحيح أنهم جعلوها مثل الصومال وجعلوا صنعاء مثل مقديشو لكن ذلك لم يكن بسبب الشريعة الإسلامية لا في كونها مصدرا حصريا ولا مصدرا رئيسيا، وإنما بسبب قوانين مندل في التوريث أي توريث الجمهورية من الأب إلى الابن إلى الحفيد، وقانون: الأقارب وأبناء القرية أولى بالمناصب.. بالإضافة إلى قوانين: انهب.. اسرق.. ارتشِ.. اشفط مما يليك! لقد أصدر المؤتمر الحاكم قوانين كذاك.. وأخطر بكثير من قانون المرور وفي ظل المادة إياها دون أن يتمعر وجه واحد من قياداته المرورية والشرطوية.. ود. الشعيبي يعرف أن سلطة المؤتمر كانت تخالف الدستور كله وليس فقط المادة الثانية، وكان البعض يحتج على ذلك لأسباب شتى من بينها أحيانا مخالفة بعض القرارات أو القوانين للشريعة الإسلامية (مثل أذون الخزانة).. ومع ذلك فلم يردعهم ذلك، ولم يهتز إيمان مؤتمري.. حتى قانون المرور وفي ذروة تحالف المؤتمر مع الإصلاح لم يقل أحد: غيّروه وبدلّوه لأنه فاسق وبدعة مخالف للشريعة الإسلامية (ويومها كان المؤتمر مستعدا ليغير حتى النظام الجمهوري إن استطاع إلى ذلك سبيلا) ليس فقط لأن أحدا لا يحترم المرور في البلاد، ولكن لأن قانون المرور ليس فيه -حسب علمي - شيء يخالف أصول الشريعة الإسلامية أو شيء فيها.. فلا ألوان الإشارات: الخضراء والحمراء والصفراء لا تتفق مع الإسلام.. ولا السير على اليسار أو فرض استخراج رخصة أو الالتزام بإشارات المرور وآدابه يخالف الشريعة الإسلامية؟ الحق أقول لكم أني لم أكن أتوقع أبدا أن يقول ذلك رجل مثل د. الشعيبي له موقف ممتاز تجاه الوحدة، ويجعلني أكتب آسفا هذه الكلمات التي قد لا تعجبه؟ إذ ماذا أبقى لأمثال البركاني وياسر اليماني ويحيى صالح وغيرهم من رجال.. المرور في اللجنة العامة؟ ثم ما الميزات التي توفرها صيغة المصدر الرئيسي وتعجز عنها صيغة المصدر الوحيد أو ما يماثلها: هل لا يمكن بناء المفاعلات النووية والمصانع الثقيلة ولا تحقيق التقدم العلمي إلا بها؟ أو لا يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والسكر والأرز وغيرها إلا بالمصدر الرئيسي؟ هل لا يمكن مواجهة الفساد، وتحصين النظام الجمهوري من التوريث، وإنهاء المحسوبية والرشاوى واستغلال الوظيفة العامة وحماية الوحدة إلا بالمصدر الرئيسي دون المصدر الوحيد؟ اثبتوا لنا هذه المنافع والشعب اليمني سيؤيد ما تريدون بالإجماع! [3] الغريب أن الشعيبي يقول في الحوار نفسه إن المؤتمريين طرحوا في الحوار أن أي قانون أو شيء (حلوة.. شيء هذه) يتضارب (يقصد يتعارض!) مع الشريعة الإسلامية سيكونون ضده بكل تأكيد ولن يقبلوا به! شفتم نتيجة إجراء حوارات صحفية في رمضان؟ تناقض -أو تضارب بمصطلح الدكتور- يحتاج إلى تفسير: إذا كنتم ستقفون ولن تقبلوا بأي قانون أو شيء يتضارب مع الشريعة الإسلامية فلماذا (تضاربون) من الآن لجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي حتى تمرروا القوانين التي ليست من الشريعة؟ بمعنى آخر إن كنتم مقتنعين أن كون الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعها يفوت على اليمن مصالح مهمة وكثيرة فلماذا تتعهدون بالدفاع والمضاربة ضد كل قانون أو شيء (يتضارب) معها؟
وفي المقابل إن كنتم لن تقبلوا أي قانون أو شيء يتضارب مع الشريعة الإسلامية فلماذا إثارة فتنة في البلاد، وتصرون على جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع مما يفتح الطريق لإقرار قوانين واتفاقيات ليست من الشريعة باعترافكم؟ وماذا ستفعلون إن وجدتم قوانين واتفاقيات فيها بقش ومصالح لكنها تتضارب مع الشريعة الإسلامية؟ طيب.. وماذا ستعملون يا دكتور مع قانون المرور الذي يفهم من كلامك أنه ليس من الشريعة، هل ستطالبون بتعديله؟ وماذا ستعملون مع(الكثير من الاتفاقيات) التي قلت في الحوار إنها مثل قانون المرور ليست من الشريعة؟ هل ستقفون ضدها ولن تقبلوا بها لأنها (تتضارب) مع الشريعة أم ستقولون: الدين نَفَس ووسع.. وقولوا: بسم الله.. الله غفور رحيم.. من فين نجيب لكم: شريعة إسلامية في كل حاجة؟ يعني: غاوين مضاربة ومشاكل وفتن بس.. تفتحون الباب لإصدار قوانين وإقرار اتفاقيات (تتضارب) مع الشريعة الإسلامية ثم تهددون بأنكم لن تقبلوا بأي شيء (يتضارب) معها وستكونون ضده؟ [4] إقرار صيغة الشريعة الإسلامية مصدر جميع القوانين قديما لم تحدث إعاقة لا للمؤتمر ولا للدكتور الشعيبي نفسه.. وقد شرحنا حالة الصيغة مع سلطة المؤتمر.. أما الدكتور نفسه فهو مثلا بعد إنهاء دراسته العليا استقر في صنعاء قبل الوحدة حيث الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعها، ولم ير أن الأصلح له العودة للعيش في شارع الهلال بمدينة التواهي في محافظة عدن؛ رغم أن الوضع الدستوري هناك لم يكن يعتمد لا صيغة المصدر الوحيد ولا المصدر الرئيسي ولا حتى المصدر.. الزغطوط! وفي صنعاء صعد الرجل بسرعة الصاروخ، وتولى مسؤوليات جامعية ووزارية ومحافظا لا يحلم بها واحد من الداعين لصيغة المصدر الوحيد! سنلجأ لفضيلة حسن الظن، ونقول إن الشعيبي كان يقصد إن صيغة (المصدر الرئيسي) ملزمة بأن تكون القوانين والاتفاقيات المأخوذة من خارج الشريعة الإسلامية لا تتعارض مع مباديء الإسلام ولا أصول الشريعة الإسلامية ولا مع ثوابت الدين: عقيدة ومعاملات وأخلاقا مما هو معلوم من الدين بالضرورة.. ولا تحلل حراما ولا تحرم حلالا! قد يكون هذا هو القصد.. وإن كان الأمر كذلك فهي مشكلة أخرى لأن معنى ذلك أن قيادات المؤتمر لا علم لها أن في مصادر التشريع الإسلامي يوجد القياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، والذرائع والعرف.. وكلها تسمح للمسلمين بأن يجتهدوا في استنباط القوانين التي يحتاجونها ولا يوجد لها مثيل في الفقه الإسلامي دون أي حرج.. بل يمكن لمجلس النواب اليمني؛ وجماعة الحوثيين بالذات؛ أن يأخذوا بأي قانون أعده الكنيست الصهيوني طالما أن اليمن بحاجة إليه، ولا يوجد مثله إلا في إسرائيل، ولا يوجد فيه ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية.. لا حرج أبدا في ذلك، ولا ينقص في إيمان أحد.. ويمكن للنواب ومنهم الحوثيون بعد التصويت على القانون أن يهبوا صارخين: الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود! المشكلة التي واجهها المؤتمريون مع قانون المرور واجهها الحوثيون أيضا مع المواد الدستورية الخاصة بالنظام الديمقراطي والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة؛ بدعوى أنها تتعارض (أو تتلابج.. كلمة مرادفة لكلمة: تتضارب) مع الشريعة الإسلامية.. والرد عليهم يماثل الرد على المؤتمريين، فالفقه الإسلامي لا يوجد في مصادره الرئيسية: القرآن والسنة والإجماع أحكام تفصيلية تحرم أو تحلل هذه المسائل، وطالما أن فيها مصلحة، ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أصول الإسلام المجمع عليها فلا حرج من الأخذ بها في إطار الاجتهاد ووفق مصادر التشريع التي أشرنا إليها.. وبإمكان الحوثيين الأخذ بها وترديد الصرخة دون توقف! وللذكرى فقط؛ فقد أصدر فقهاء الهادوية أيام الخلاف على مشروع دستور الوحدة بيانا باعتبارهم (العلماء الحقيقيون) أفتوا فيه بأن مشروع الدستور إسلامي في الفردوس الأعلى.. رغم أن فيه مادة تقول إن الإسلام دين الدولة وليس دين الشعب، وفيه مادة تقول إن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.. وإن لم نكن ناسيين فالمنظّر الذي أعد للحوثيين ورقتهم التي رفضت النص على أن الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي.. هذا المنظّر كان يومها مسؤولا في حزب الحق، ولا شك أنه شارك في إعداد البيان.. والمهم أن العلماء الحقيقيين (!!) لم يروا في الدستور بأسا ولا وهابية ولا علمانية ولا خروجا على الإسلام.. كما أن الحوثيين القدامى كانوا يتفاخرون بأن فقهاءهم ومنهم القاضي/ أحمد الشامي (رحمه الله) هم الذين نظّروا للديمقراطية في إطار الإسلام بما لم يسبقهم أحد من أبو يمن! فما عدا مما بدا؟
[إلا إذا كان المقصود غير المعلن أن النظام الديمقراطي يتعارض مع نظام الإمامة في الفقه الهادوي.. وهذه حكاية أخرى لا يمكن مناقشتها إلا بإعلان صريح بها.. وهذا يجعلنا ننتبه لم يروج له من ضرورة أخذ المذاهب في الاعتبار في الدستور.. فقد يأتي من يقول إن مذهبه يفرض عليه أن يكون النظام السياسي على نمط الإمامة وليس الديمقراطية.. ويجب احترام حقوقه المذهبية وإلا أعطونا محافظة أو اثنتين نقيم فيه مذهبنا.. مش قلتم احترام المذاهب.. وإحنا مذهبنا هكذا؟!]