برغم إندماجه في الحياة السياسية منذ نشأته قبل حوالى ثلاثة وعشرون عاماً, ودوره البارز في إنعاش التجربة الديمقراطية والدفع بها قدماً حتى غدا وفق الكثيرين شرطاً لازماً لها, وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد من الزمن على تأسيس تكتل أحزاب اللقاء المشترك كمنصة إطلاق لأحزاب المعارضة اليمنية, التي غدت بفعل هذا الائتلاف الحزبي بمثابة الرافعة السياسية للمشروع الوطني الجامع في اليمن, وعلى الرغم من إنخراط التجمع اليمني للإصلاح بفعالية ضمن هذا الإطار السياسي الناظم لأهم أحزاب المعارضة, وفق رؤيته الوطنية لتوسيع قاعدة الشراكة والعمل المشترك وتوحيد الجهود وتقريب وجهات النظر وإرساء قيم التسامح والتعايش والقبول بالآخر, مع ذلك كله, فإن البعض, للأسف الشديد, ما فتئ يُصّر على تكييف الإصلاح وفق هواه, محاولاً إلصاقه بتوصيفات مغايرة للواقع لا ترى فيه ذلك الحزب المتعايش مع الآخر بل المعادي له. وبرغم ثراء التجربة السياسية الإصلاحية, وبخاصة في ما يتصل بالعمل المشترك مع بقية الأطراف السياسية الأخرى للوصول إلى أرضية مشتركة, والإسهام في تسوية الملعب السياسي لضمان مزيد من الشراكة السياسية, وخلق حراك سياسي مجتمعي متعايش يشمل معظم فئات الشعب وقواه الحية, إلاّ أن ثمة من لا يزال يطلق دعوات التعايش والقبول بالآخر صوب الإصلاح! وكأن الإصلاح يعيش منعزلاً في إمارة صغيرة في شمال الوطن أو في جنوبه, أو لكأنه هو من يقوم بضرب أسس التعايش السلمي في أوساط المجتمع ويفتعل الصراعات مع أبناء الوطن في صنعاء وصعده ودماج والجوف وحجه وعمران وحرف سفيان ومعبر والرضمة وتعز وغيرها من مناطق اليمن! وكأن الإصلاح هو من يقول لليمنيين أنا مفوض من الله بحكمكم, وليس لكم من خيار إلاّ أن تقبلوا بهذا وتذعنوا له, ولتطرحوا الشراكة التي تتحدثون عنها جانباً! الإصلاح لم ينحدر إلى هذا, وإن كان آخرون تورطوا فيه. ثمة صنف من الناس يسعى لمغالبة الحقيقة التي هي أظهر من عين الشمس في رابعة النهار, ويأبى إلاّ أن ينظر إلى الإصلاح من ثقب إبرة أو من منظاره الضيق المشبع بالأحكام المسبقة, فيراه متصلباً رغم مرونته, ومتشدداً رغم سماحته, ومتطرفاً رغم وسطيته, وهلعاً رغم قناعته. أولئك يرونه أيضاً كمتطفل على السياسة أو حديث عهد بها, لا يجيد قراءة واقعه ولا يعي ما يدور من حوله. والبعض الآخر يُصّر على أن يضع الإصلاح ضمن تصنيفات وأنماط سياسية بعيدة عنه ولا تنطبق عليه, ليُلقوا عليه دروساً في الوطنية والشراكة السياسية, التي لا تعني عندهم سوى تقديم التنازلات تلو التنازلات من قبل طرف بعينه, ليستثمروه هم في تعزيز مواقعهم, خصماً من حساب شريكهم لا نتاجاً طبيعياً لثقلهم وحجمهم وقوة تأثيرهم. على أن الإصلاح أشد ما يكون اليوم صفحة بيضاء وكتابا مفتوحا بوسع الجميع قراءته دون عناء, فهو لا يقوم على الإنتماءات الضيقة ولا تهيمن عليه الولاءات الطائفية والعنصرية والمناطقية, بل هو أول من ينبذها ويتصدى لها, إذ هو حزب سياسي يستلهم المعاني والمنطلقات الكبرى للإسلام وحركة الإحياء والإصلاح اليمنية, ويمتد على كل ربوع الوطن ويتسع لكل أبنائه. وبهذا المفهوم فهو أبعد ما يكون عن الطائفية والمذهبية والمناطقية, وهو بالنتيجة ليس حزباً دينياً بالمعنى السائد وإن كان الإسلام أساس مرجعيته, فالإصلاح كسائر الأحزاب اليمنية ينادي بالدولة المدنية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية التي تمثل عقيدة الشعب وهويته التي لا يختلف عليها أحد. وطبقاً لذلك فهو لا يرتكز على مفهوم ديني معين, كما قد يذهب البعض, ولا يحكم على الآخرين من خلال مذاهبهم وطقوسهم التعبدية, بل من خلال ما يحملونه من احترام والتزام بسلطة النظام والقانون وما يجسدونه من قبول بالآخر وتعايش معه واعتراف بحقه بالشراكة والعيش بأمان وفق ما يعتقده. وحين يرتكز أي حزب سياسي أو جماعة دينية على مفهوم ديني معين فسوف يدّعي حينئذ حق الوصاية على الدين, وقد يخطئ في تقديم نفسه من خلاله كناطق رسمي له لتوهمه أن الدين أضحى ملك يمينه وحقاً حصرياً له. وثمة من يجنح به تطرفه إلى هذا الحد, فيما يقف الإصلاح على النقيض. وفي حين يذهب الغلو بأولئك المتطرفين حد معاداة الآخرين وكراهيتهم وأحياناً مقاتلتهم لمجرد مخالفتهم في الرأي أوفي بعض طقوس العبادات, يتفادى الإصلاح الوقوع في مثل هذا الجرم, متحرراً من عُقد التعصب الطائفية والعنصرية والمذهبية, ومعلياً في الوقت نفسه من قيم التسامح والتعايش والقبول بالآخر, بدليل انفتاحه على كل التيارات الأخرى دون خوف أو شك, كونه يعي جيداً مسؤوليته الوطنية والأخلاقية في الإسهام الجاد في بناء مجتمع مستقر وآمن ومتعايش, ينعم بالحرية والديمقراطية ويتسع للجميع. ومهما يكن, فليس ثمة مكان بالطبع لملائكية أحد واكتماله, فعالم البشر لا حظ له في ذلك, والإصلاح كغيره من القوى والأحزاب المشتغلة بالعمل السياسي يجري عليه الخطأ والقصور, ومن حق الآخرين تصويبه وإسداء النصح له بل ونقده, لكن بموضوعية وتجرد وتخفف قدر المستطاع من أثقال التعصب والكيد واقتناص الأخطاء والبناء عليها لإعطاء تقييم منحاز أو رؤية قاصرة, وإطلاق العنان لأحكام جاهزة. إذ مهما كانت نظرة الباحث المدقق والسياسي الحصيف والناصح الأمين, ومهما تحصلوا عليه من معلومات متناثرة, فستظل نظرتهم قاصرة, وقدرتهم على رسم صورة حقيقية مكتملة محل شك, كونهم ينظرون من الخارج ويصعب عليهم رؤية بقية المشهد بوضوح من الداخل. منذ نشؤوه لم يُعرف عن الإصلاح لجؤوه إلى العنف لحل خلافاته أو استخدام القوة لقسر الغير وإرغامه على قبول ما يكره, سواءً أكان سياسياً أو دينياً, وبقي الإصلاح أحد عوامل الاستقرار في هذا البلد من خلال تساوقه مع حركة المجتمع وتجنبه الوقوع في شرك العنف, وانخراطه عوضاً عنه في العمل السياسي والنضال السلمي, بالتوازي مع إشاعة فكر إسلامي معتدل أوجد حالة من الوئام والسلام والتعايش في أوساط المجتمع. وحين تفشّت تيارات وجماعات دينية هنا وهناك, نتيجة عوامل داخلية وخارجية كثيرة, علت نبرة التشدد والغلوا وبزغت النعرات الطائفية والعنصرية وأخذت حيزاً من وقت وجهد المشتغلين بها, وتنامت مساحة الكراهية واتسعت رقعة الصراع, وانكفأ البعض على نفسه وأوصد الباب أمام دعوات التسامح والقبول بالآخر والتعايش معه. في حين بقي الإصلاح محافظاً على سياسة التقارب ومد الجسور بين مختلف الأطراف, بالنظر إلى أن الجميع على سفينة واحدة ومن المهم أن يتقبلوا بعضهم إذا أرادوا الوصول معاً إلى شاطئ الأمان. تلك كانت باختصار حكاية الإصلاح مع الشراكة والتعايش المجتمعي في اليمن التي يحاول البعض اللعب في ساحتها لمآرب خاصة لا علاقة لها بترسيخ تلك القيم بقدر ما تهدف للابتزاز والحصول على تنازلات, وهي تنازلات ستكون مقبولة ومنطقية, بل وضرورية أيضاً طالما والجميع ملتزمون بقواعد اللعبة السياسية وشروط الديمقراطية في إطار منظومة العمل المشترك, بما في ذلك بالطبع تقديم تنازلات متبادلة, وترك الاستقواء بحالة الضعف ذاتها التي قد تستخدم كأداة قهر لتسويغ الحصول على تنازلات من طرف بعينه دوناً عن الأطراف الأخرى, وحين يفكر البعض بتلك الآلية فالأفضل له أن يدع حديث الشراكة جانباً. [email protected]