كحامل المسك إما أن ُيحذيك أوتبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، إيجابيّ فيما يُعرض عليه، لا يتردد في خدمة الناس والسعي لمنفعتهم، نسمة عليلة تنعشك، وجدولٌ رقراقٌ لا تملّ من رؤيته، قليل الأقوال كثير الفعال، بشوشٌ كثير التبسم، نادر الشكوىٰ، كثير الإنجاز، صلب المراس قد يدخل في صراع شديد مع أصحاب الوجاهة والنفوذ من أجل مصلحة عامة؛ لكن اليوم وبعد وفاته سيكتشف من اختلف معهم بأن لا ناقة له ولا جمل في قضية الخلاف معهم، وإنما كان ذلك من أجل مصلحة عامة للأيتام أوالأرامل أو جمعية خيرية ذات نفع عام... إنه الدكتور طارق بن سنان أبولحوم الذي وافاه الأجل الأحد الماضي بعد تعرضه لجلطة شديدة أثناء رحلة عمل في ماليزيا. عرفته لأول مرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكنت حينها مديراً عاماً للتعليم عندما جاء إلى وزارة التربية لمعادلة شهادة الدكتوراة في طب الأطفال والتي حصل عليها من تونس عام 1981م، الدكتور طارق الذي حفر اسمه في ذاكرة الجيل حاملاً لراية البِرْ والخير والإحسان، ترك بصمات لا تُنسىٰ في خدمة المجتمع، وظل ينأىٰ بنفسه عن المناصب السياسية التي عرضت عليه، وكان شديد الحرص أن يكون لكل الناس بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، أو مناطقهم الجغرافية، وعلى الرغم من اختياره عضواً في اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام فلم يعرف التعصب الحزبي ولا القبلي ولا المناطقي، ولم يتنكر لأي جهة أو فرد، وظل خدوماً لمن يعرف ومن لا يعرف. كنت أتردد عليه لعلاج طفلتي في عيادته الطبية بشارع حدة، وكانت العيادة نموذجية في نظامها وتجهيزاتها ونظافتها، وكان رائعا في تعامله مع مرضاه الأطفال ومع آبائهم وأمهاتهم؛ يعطي الحالة التي أمامه حقها من الإهتمام وحُسن الاستماع، ودقة الكشف وتشخيص المرض، يُشعر أهل المريض بأن الطفل الذي يعالجه ولده هو، وأمره يهمّه أكثر من والديه، وكانت تلك المعاملة الراقية جزءاً من العلاج.. عمل أستاذاً لطب الأطفال في كلية الطب بجامعة صنعاء، ورئيساً لقسم الأطفال، وشارك في تأليف مناهج طب الأطفال في الجامعة، وعلى الرغم أنه طبيبٌ نطاسيٌّ؛ فقد كانت لديه اهتمامات علمية وتجارية واجتماعية واسعة. وكان - رحمه الله - منظّماً ومتميّزاً في علمه وعمله وعطائه، متعدد المواهب، مبادراً ولديه طموح واسع، لكنه - كما وصف نفسه - لم يجد ذاته إلا في العمل الخيري الذي أصبح يجري في عروقه ودمه ويشغل فكره ووقته وجهده، حتى برّز فيه وصار علَماً ورائداً وقائدا لا يُشقّ له غبار في عمل الخير وخدمة المجتمع، راحته وسلوى نفسه حين يحقق نجاحاً أومكسباً للفقراء أوالأيتام أو طلاب العلم أو مساعدة المرضى، تبنى مع والدته إقامة سكن خيري لطلاب جامعة صنعاء مكون من عدة مبانٍ استوعبت ومازالت آلاف الطلاب المحتاجين للسكن. أواخر الثمانينيات كان قد دعا مع ثُلّة من أهل الخير إلى تأسيس جمعية خيرية تخدم شرائح المجتمع المختلفة، لا سيما الفقراء وذوو الدخل المحدود، وتم وضع النظام الأساسي للجمعية وسميت ( جمعية التكافل الاجتماعي الخيرية )؛ إلا أن وزارة الشؤون الاجتماعية اعترضت على الاسم لوجود جمعية سابقة بذات الاسم فعدل عن تلك التسمية إلى ( جمعية الإصلاح الاجتماعي الخيرية )، وكان ذلك قبل تحقيق الوحدة اليمنية وقبل التعددية السياسية في اليمن، وتم اختيار الدكتور طارق سنان أبو لحوم رئيساً للجمعية والدكتور حميد زياد أمينا عاماً، وبدأ مع زملائه من الصفر، وقام عمل الجمعية على الاشتراك الشهري للأعضاء المؤسسين وتبرعاتهم، واستطاع - رحمة الله تغشاه - بدَأَبِه وعزيمته وحكمته، وقدرته الفائقة على تكوين العلاقات وحسن قيادته للعاملين معه أن يقفز بالجمعية خلال عقد من الزمان لتغطي بخدماتها كل أنحاء الجمهورية، بل صار لها إسهامات في حملات الإغاثة في اليمن وعلى مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، وغدت محل الإعجاب والتقدير محلياً وإقليمياً ودولياً، وبعد أن وقفت الجمعية على أقدامها ترك الدكتور طارق رئاستها لينتقل إلى ميادين أخرى أبدع فيها وإجاد. كان الدكتور طارق الرائد والمؤسس لمدارس النهضة الحديثة، وقد طلب مني حينها أن أضع نظامها الأساسي واستخراج الترخيص من وزارة التربية، ثم تبنى فتح كلية العلوم والتكنولوجيا التي تطورت بعدها إلى جامعة العلوم والتكنولوجيا كبرى الجامعات الخاصة في الجمهورية اليمنية، واستقطب لها خيرة الأساتذة والمربين وعلى رأسهم الدكتور داود عبدالملك الحُدابي والمهندس عثمان غانم، وآخرون لا يتسع المقام لذكرهم، وتولّىٰ رئاسة مجلس أمناء الجامعة، وتوّج ذلك الإنجاز بإنشاء مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا الصرح الطبي المتميز الذي كان رئيساً لمجلس إدارته. والدكتور طارق أبولحوم عضو فاعل في الجمعية الخيرية لتعليم القرآن الكريم، وشغل موقع رئيس مجلس إدارة شركة الموارد للخدمات التعليمية والصحية، وتم اختياره عضواً في المجلس الأعلى العالمي للمساجد برابطة العالم الإسلامي، وهو أيضاً عضو مجلس إدارة الصندوق الاجتماعي للتنمية، كما أنه عضو ومؤسس في العديد من المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والشبكات الخيرية والتنموية. سيماء التقوى والصلاح بادية عليه، تراه خاشعاً في صلاته، دائم الذكر والدعاء، ومع جلال قدره فهو متواضع، لين الجانب، حلو المعشر، وأتذكر حين حضرت مأدبة غداء في دار الأحمر التابع لجمعية الإصلاح الاجتماعية الخيرية، بمناسبة مناقشة رسالة دكتوراه لأحد أقاربي، وفاجأني الدكتور طارق أنه من يقوم بتقديم الطعام وخدمة الضيوف ولم يأكل إلا بعد أن أكل الناس!! أما علاقته الأسرية فهو نموذج رائع للولد البار بوالديه، وقدوة يُحتذىٰ للزوج المثالي والأب الحنون والأخ العطوف، يصل الرحم، ولا يغيب في مناسبات الأفراح والأتراح لأقاربه وأصدقائه وأحبابه، مع كثرة أعماله وتعدد مسؤولياته. برحيل الدكتور طارق سنان أبو لحوم فقدت اليمن والعالم الإسلامي شخصية اجتماعية فاعلة ونادرة، ذات قدرات فائقة في تكوين العلاقات وتوجيهها لعمل الخير، عاش لأمته وبذل حياته من أجل الآخرين، كان يبدأ دوامه من بعد الفجر ويستمر حتى المساء، لا يَكلّ ولا يَمَلّ ولا يعرف اليأس والإحباط، الحيوية والنشاط أهم صفاته، وكأن واجبات كثيرة عليه أداؤها في عمره المحدود، وكان - رحمه الله - مع ذلك حازم وقوي وصاحب شكيمة وعزم، ومن ذوي الرأي وبُعْد النظر، وسيترك فراغاً كبيراً في جميع الميادين التي عمل فيها. القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراقك يا أبا فراس لمحزنون، اللهم ارحمه وارفع منزلته، وتقبله في الصالحين واحشره في المهديين واجمعنا به في جنات النعيم، واجزه بالإحسان إحساناً وبالسيئات عفواً ومغفرة ورضواناً، اللهم ازرق والده وأهله وذويه الصبر والسلوان، واخلفه عليهم وعلى أمته ووطنه بأحسن خلافة. "إنا لله وإنا إليه راجعون".