على مدى بضعة أعداد سلفت؛ ناقشت صفحة الأدب في «الصحوة» دور المثقفين في تشكيل المشهد الجماهيري العربي الراهن، وقد اتفقت كل التناولات المطروحة على فاعلية الروح الجماهيرية في إحياء كثير من القيم الجميلة، ومنها قيمة الثقافة كمنزع إنساني ملازم للفعل الإيجابي - أيا كان- تنظيرا وتوصيفا وتوجيها. ولعل ما يُلفت النظر في هذا الحراك العربي الواسع أن إبداعا دافقا في مختلف وسائط التعبير يضبط الشارع العربي بإيقاعات متناغمة، قد تختلف في الأسلوب نتيجة للخصوصية المكانية؛ لكنّها تشكل في مجملها لوحة متفردة من النشاط الجماهيري الذي يربط جزئيات الحدث عموديا وأفقيا، كمّاً ونوعا، عبر نشاط ثقافي يحقق مدلول الجماعية لأول مرة في تاريخ الثقافة العربية، بعد أن فشلت كل المؤسسات والمنابر الثقافية أن تقدم نموذجا مشابها رغم إمكانياتها الهائلة وعبر عقود متطاولة من الفعل الميت الذي لا يتجاوز المناسباتية الرسمية. ولعل من أهم ملامح هذا الزخم الجماهيري أنه يقدم نفسه بعفوية كبيرة، وبتلقائية أكبر وببساطة لا توصف بعيدا التنميق والتزويق والديكورية إيمانا من هؤلاء بأن قيمة ما يصدر عنهم تكمن في الموضوع لا في الشكل، وتلك ضرورة فرضتها اللحظة، واقتضاها الموقف الذي جعل كل واحد من هؤلاء بطلا حقيقيا للحدث، في مشهد موحّد، وفي الفرصة ذاتها، ولأداء الدور نفسه، وكم كان هؤلاء في منتهى الروعة، وهم يرفعون شعاراتهم في لوحات متواضعة كتبت بخطوط باهتة مرتعشة، وبرسومات عفوية، وبحركات طريفة تختزل مبادئ ثورتهم، وتستدعي إلى ساحة الحدث النكتة السياسية بأساليب لم نعهدها من قبل، فهذا معتصم في ميدان التحرير (تحرير مصر طبعا) يوجه خطابه إلى الرئيس المخلوع باللهجة المصرية (أنا لسه مجوز من عشرين يوم، إمش عشان أروح)، وآخر يكتب على ظهر قميصه (إمش.. عشان أغيّر)، وثالث يكتب كلمة (إرحل) بالمقلوب، احتمالا منه أن المخاطَب يفهم بالمقلوب، ورابع يستدعي كل مفردات اللهجات الدالة على الفعل (ارحل)، مثل: إخطا.. انقلع.. ولّي.. ولعلَّ أطرف ما في هذا الموضوع لوحة رفعها المتظاهرون الليبيون كُتب عليها (42 رقم حذاء، وليست فترة حكم). ومن ملامح ثورة الشباب أنها أحرقت أسفار الهزيمة، ونفخت الروح في أطرافنا الميتة، وأثبتت أن (النكسة) التي أجهزت على الروح العربية عام 1967م ليست قدرا حتميا لا يمكن مغادرته، ولكنه ظل عارض ينقضي بإرادة الحياة. كما أن هذه الثورة أعادتنا إلى ذواتنا، بل وولدنا نحن جيل النكسة على يدها من جديد فأعادت تسميتنا، فبعد أن كنا أبناء (النكسة)؛ أصبحنا اليوم أبناء جمعة الغضب، وجمعة الوفاء، وجمعة الكرامة، وجمعة التلاحم، وهي بذلك تحيي أيامنا، وتجعلنا على اتصال حقيقي بمعاني الكرامة التي فقدناها منذ عقود، وأصبحت في ثقافتنا نادرة ندرة الغول والعنقاء والخل الوفي. وثمة أمر في غاية العظمة يُحسب لهؤلاء العظماء، وهو أنَّ نار الفتنة التي دأبت كثير من الجهات داخليا وخارجيا على إيقادها لإيجاد خطوط فاصلة بين أبناء الشعب الواحد انطفأت بسر ذلك التلاحم الكبير والتآخي النبيل الذي جعل الثنائية الدينية كما في مصر، أو الفكرية أو السياسية ثقافة منبوذة، فالجميع هنا تحت راية الوطن، هدفهم واحد، وسبيلهم واحد، وروحهم واحدة، وهنا يبرز سؤال كبير: كم يحتاج مفكرونا وكتابنا من السنوات الضوئية لتحقيق مثل هذا الإنجاز كنموذج حي على أرض الواقع؟ ولا شك أن إجابة هذا السؤال تبدو صعبة معقدة، خاصة ونحن نستقرئ عقودا من التنظير، ورسم الاستراتيجيات، خروجا إلى نتائج لا تكاد تبين. ولأن هؤلاء مبدعون فقد أضافوا إلى هذا المشهد بعدا إنسانيا في غاية من الروعة حين أثبتوا بالفعل أن ميادين الثورات تتسع لشيء من المرح الجميل، بل وتتسع للأعراس، ولم تعد كما كانت مقصورة على استراتيجيات القتال كرا وفرا. كما أنَّ هذه الميادين أصبحت ورش عمل نشطة، يأخذ الملتحقون بها دورات في الخطابة والإلقاء، والتمثيل المسرحي، والصحافة والإعلام، والرسم التشكيلي، ومنصاتها خالصة مخلصة للشباب لا يتحكم فيها فرز حزبي، ولا نزعة شللية، ولكنه فضاءات تتسع لكل ذي موهبة ورغبة في المشاركة، وهذا فضاء مغاير تماما لطبيعة الأنشطة الثقافية في بلادنا وخاصة الرسمية التي انحصرت في أسماء معينة تحكمت في مسارب الفعل الثقافي، وما انفكت تبدؤ فيه وتعيد على نحو رتيب يعاد فيه طحن المطحون، بينما همّشت الكثير من المواهب، وطمرت العديد من الأصوات، وأصبحت فلكا لا يدور فيه إلا ذوو الحظوة من المتشاعرين والمتثيقفين. أما عن جمهور هذه الفعاليات الثقافية، فلا أعتقد أن جهة ما رسمية أو مدنية استطاعت في بلادنا على مدى قرون لا عقود أن تحشد لفعالية فكرية أو ثقافية بمثل هذه الأعداد الهائلة، ويدرك ذلك جليا العاملون في الشأن الفكري والثقافي، الذين يسهرون كثيرا ويتعبون أكثر من أجل إقامة فعالية ما تستهلك الكثير من المال والجهد والوقت، ثم تكون المفاجأة في كثير من الأحيان أن المشاركين على المنصة أكثر من الجمهور الذي يداهمه النوم فيخلد إليه بعيدا عن ضوضاء الميكرفون وأضواء المنصة. هؤلاء الشباب في مختلف شواطئ الجرح العربي وجدوا أنفسهم هنا في هذه التجمعات إبداعا وحرية وقيما وإنسانية، بعد أن أرهقهم البحث وأضناهم الانتظار، فاندفعوا طوفانا يغسل الوجه العربي، ويعيد إليه ليس اليقين بعظمة رسالته فقط، بل واليقين بقدرته على حمل هذه الرسالة، وهو مفهوم شرد عنا كثيرا.. كثيرا.. إذن .. أليس هؤلاء هم المثقفون الكبار؟