أقسموا بالساحقات الماحقات، وعاهدوا الله والوطن أنهم لأجله خرجوا ولوحدته هتفوا ولمستقبلة اعتصموا ولعزته توحدوا ولرحيل هذا النظام صاحوا وانتفضوا.. مأرب تنتفض، وتعلن حضورها وسط زخم التغيير، وفي جمعة الصمود وأيام الغضب أعلنت تحذيراتها للنظام بأن كفوا عن الاعتداءات، وارفعوا أيديكم عن أبناء الشعب فمأرب لم تغضب بعد لأن لغضبها عواقب ولزئير أسودها معنى واعتبار. حتى وإن خرجوا بسلاح الوطنية المعتمرة في الصدور وسلاح النضال السلمي الذي يهز أطلال سبأ ويقض مضاجع ما بين النهدين، فالأقيال وأحفادهم قرروا التغيير فلا صوت في مأرب يعلو فوق صوت التغيير. غادرنا صنعاء تاركين ساحة التغيير تعج بالشباب والسماء تبارك جمعهم بأمطار ظن النظام أنها ستقلع خيامهم التي بدت أن أركانها وأساساتها متجذرة في الأرض ولم يعد ينفع معها العواصف والقواصف. نعم، صنعاء لها ألقٌ مختلف ولكن ماذا إذا غصنا أكثر في عمق التاريخ ووقفنا على أطلال عرش بلقيس الشاهد على زوال أعتى ممالك الأرض فكيف بنظام هش أوهن من بيت العنكبوت، وكأن هذه الأطلال تقول لصالح رسالتها الأخيرة وتلك الأيام نداولها بين الناس، فالرحيل هو آخر صفة يتصف بها القادة والناس أجمعين. من هنا مرت القوافل ومن هُنا أيضاً أقام اليمانيون دولتهم وأسسوا ما ظنوا حينها مملكة سبأ فحاولوا الإبداع واجتهدوا كثيراً إلى أن وصلوا إلى قمة المجد حين منحهم كتاب الله وصفاً وأوصافاً وذكر شورويتهم وكأنها أول شورى في الأرض فهل ينهج صالح الشورى فعلاً..!. وكأني بكل ما في مأرب من أطلال وحضارة أستقي الدروس والعبر لأسقطها على واقع مرير تعيشه اليمن بعد أن قطع النظام الحالي على نفسه عهداً بأن يواصل مسيرة التفرقة بين أبناء الوطن ويهدد وحدة النسيج الاجتماعي، ولكن وكما صمد الأقيال في وجه الغزاة، صمد اليمانيون في محافظة ضد الفساد، فإذا أنّت صنعاء استجابت لأناتها تعز الحبيبة، وإذا اشتكت عدن تداعت لها سائر الجسد بالسهر والحمى. آه.. ما أروعها هذه الأرض التي تسمى اليمن.. وبعيداً عن العواطف وأشجان النضال والتطلع للتغيير كُنا وبعد خروجنا ليلاً من صنعاء نشهد إنجازات النظام الذي أستطاع أن ينصب أكثر من ثلاثين نقطة أمنية بين صنعاءومأرب كدليل واضح على شعار الأمن والاستقرار، وعند كل نقطة يستوقفك الجنود بعيون ساهرة لا يعرفون لماذا هم هنا، فقط لإيقاف السيارات وتفتيشها والتأكد من الهويات إن لم تكن في الحقيقة هوية اليمني الذي مزقته الأيام ونال منه الدهر. هُنا وفي كل مديريات مأرب المتناثرة بين الرمال تحرص الدولة على الحضور، ليس بالمدرسة أو بالمعهد كما تفعل ذلك دول العالم المتحضر، إن نظامنا حاضر بالفتنة وتغذية الصراعات كما يقول من التقيناهم من شباب، حينها تذكرتُ الحضور الأسطوري لنظام صالح في كل المحافظات والمدن الرئيسية عبر المعسكرات وقوات الجيش، وعلى ذكر الجيش فقد استطعنا الاقتراب أكثر من جنازيره ودباباته التي لم يعد لها في مأرب مقام فقد استفاقت بعد منتصف الليل لتعود إلى حماية صنعاء كما يُشاع. صباح بلا رصاص!! كشف الصباح عن وجهه ولكن بلا ديك إب وريمة والمناطق الريفية الجميلة، وقطعا ليس على طلقات الرصاص والمدافع كما يُشاع عن مأرب، استيقظنا على صيحات مكبرات الصوت وهي تصدح بأذان التغيير في مأرب لتقول الشعب يريد إسقاط النظام. تجولتُ في المدينة قبل أن أتجه إلى مقر الاعتصام، وإذا بعبارات إسقاط النظام تملأ الأجواء فما أن تقول الشعب يريد وتصمت حتى يكلمها آخر بالقول إسقاط النظام. قررت بشجاعة التوجه إلى مقر الاعتصام لأجد خياماً منصوبة في ساحة أطلق عليها الحرية تمتلئ بشباب مأرب الذين تركوا أسلحتهم وقرروا هذه المرة التغيير السلمي.. هُنا داخل الاعتصام يُبدي الشباب أسفهم لعدم تواجد الحشود الكبيرة، وهنا شاطرتهم الهم ولكن بعبقرية لا أدعيها استطعت الإجابة على هذا التساؤل الذي يقول أن أبناء مأرب كلهم مع التغيير ولكن لماذا لايعتصمون فتحولت إلى محلل سياسي لأحاكي إجابات الزميل محمد الخامري خلال إجاباته على تساؤلات القناة التركية الإخبارية، وقلت إن مأرب لم تعهد الاعتصامات والاجتجاجات، وهذا ما تؤكده شهادات الكثير من الشباب الذين رفضوا الانضمام للاعتصام رغم أنهم تواقين للتغيير ولكن ما زلوا يؤمنون بطرق أخرى للتغيير ويدعون إليها. ورغم بروز هذا التوجه في مأرب إلا أن المعتصمين يزدادون يوماً بعد آخر، ويؤكدون نهجم السلمي والتزامهم بإظهار مأرب بالطريقة الجديدة التي يصيغها أحرار ملتقى أبناء مأرب لها. من مختلف الانتماءات السياسية والقبلية رفع المعتصمون صور جابر الشبواني الذي قضى شهيداً على يد طائرة عسكرية، وهذا ما لفت الأنظار ولاقى المعتصمون دعماً وتأييداً معنوياً كبيراً حتى من قيادات محسوبة على الحاكم. سلمية سلمية، من مأرب النفطية.. هكذا تلهج ألسنتهم وهم يعلنون مشاركتهم في جمعة الصمود، وبعد أن تناولوا وجبة الإفطار مما جادت به نساء مأرب من مختلف المديريات من كعك وغذاء لم يكن هذه المرة لدعم شرعية صالح كما حدث في صيف 94م بل لإسقاطها رغم إدعاءه أنه يخوض حرباً أخرى ضد أعداء الشرعية.!!. القساوة والجلد وشحذ الهمم بدا جلياً في ماكتب على بعض المأكولات فعبارة (لا ترحلوا حتى يرحل)، كانت تحاكي عزائم الشباب وتشد من أزرهم وتجعلهم في معركة تحدي يبدو أنها ستطول. نصبوا المنصة ليصعد عليها الشيخ مبخوت الشريف رئيس اللقاء المشترك بالمحافظة والمعروف بمواقفه المناوئة للسلطة ليُعلن عن جديده وجديد مواقفه ولكن ليس لإعلان الزحف إلى صنعاء كما يُروج له أوساط الشباب، بل دعا جميع أهالي المحافظة إلى الالتحام بالمعتصمين وعدم العودة إلا بعد رحيل الرئيس. مناصرو صالح رغم ما قلناه، إلا أن واجبات المهنة تقتضي التطرق إلى أن البعض ما زال يناصر صالح ولكن يشترط لبقائه محاربة الفساد، ولعل محاولات الشاب سالم عبدالقادر جميح والمساهم في الاعتصام في إقناع شباب آخرين للانضمام إلى الاعتصام أصابته ببعض الإحباط، ولكن ما هي إلا ساعات ويظهر رباطة جأش شديدة في البقاء معانداً حرارة الشمس في وقت عصيب. هنا لجان للإعلام وأخرى للنظام، الكل يُشارك في التغيير ويُثبت وجوده ويحاول إيصال مأرب وصورتها إلى العالم، فعبر شبكة الإنترنت ومواقع الفيس بوك يُفاخر الشباب هنا بأنهم أطلقوا قناة خاصة لمأرب عبر الانترنت لتؤكد مأرب بشبابها أنها حاضرة في قلب القرن الحادي والعشرون لا كما يُروج عنها، وعلى الإنترنت يقول أحدهم أنه يقرأ إيلاف عبر الإنترنت بعد أن غابت عن أكشاك المدينة!!. حالة استنفار عارمة يعيشها الشباب هنا، ترقب وتململ وتوجس من حدوث شيء، لاسيما مع ما ورود أنباء من صنعاء تتحدث عن هجوم السبت الدامي على المعتصمين في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، وكأن الجسد اليمني تتدفق فيه الدماء من جديد وتعيد له الروح المتقدة الثائرة على تراكمات الأيام والسنون وما خلفته سياسات النظام التي مزّقت المُمزق وشتتت الشتات، حتى العلماء لم يكونوا بمنأى من ذلك. ملتقى أبناء مأرب يعقد اجتماعاته لتتداعى له القبائل وتؤكد حضورها في وادي السحيل الذي ضم العديد من المشائخ والشخصيات أكدوا إداناتهم لما حدث في صنعاء، وتأييدهم لثورة الشباب ومطالبهم فالكل يئن من مصائب النظام خاصةً في مأرب الذي عمد فيه صالح إلى دعم قبائل ضد أخرى، وتأليب البعض ضد الآخر، في حين تسرق الثروات وتمر من تحت أرجلهم خلسة لتصل عبر ناقلات العميد كما يقول الشباب بعوائدها إلى قصور صنعاء. ويذكر لنا أحدهم هُنا أن منبع الثروة من مأرب ومصبها في جيوب الإقطاع وعشاق الجاه والسلطة..!! ويبدو أنني سأعاكس ما قاله هدهد سليمان الذي وجد قوماً هنا يعبدون الشمس، ولكن مع اختلاف الأيام ودوران الأرض فإني وجدت فيها قوماً يتحدثون عن المدنية ودولة الحداثة لأقترب منهم أكثر لا لاستراق السمع بل لمشاركتهم حديثهم، إنهم طلائع ونخبة ما زالت تحفر في الجدار من ملتقى أبناء مأرب وقياداتها التي عمدت إلى تفعيل النشاط أوساط الشباب لخلق وعي وطني لدى الجميع. القبيلة يؤكد أبناء مأرب وشبابها أن القبيلة مكون أساس من مكونات المجتمع لا تتعارض والدولة المدنية الحديثة التي ينادي بها الجميع بعد إسقاط عصابات الفساد كما يقولون، وتحت خيمة الاعتصام يتحدث جمال شاجرة، وهو من قيادات الملتقى، يتحدث عن الثورات العربية الحديثة ليقول إن الأنظمة العربية كانت أداة للاستعمار وأنها لم تصمد أمام إرادة الشباب الذين تجاوزا مخططات وتكتيكات الأنظمة وانتصروا عليها بفعل الثورة التكنولوجية وتطوعيها لخدمة التغيير.. ويضيف شاجرة أن الشارع في بعض المحافظات الجنوبية كان له سبق الريادة في النضال السلمي، فقد خرجوا للمطالبة بحقوقٍ شرعية قبل سنوات، مؤكداً أن أبناء المحافظات الجنوبية وحدويون وأصحاب مشروع دولة حديثة. ويبدو أن الرياح التي تهب على مخيمات الاعتصام تحمل رياح شبوة ومحافظات المناطق الجنوبية، حيث يقول ناجي الحنيشي في مداخلته أن أبناء المحافظات الجنوبية حركوا الشارع مبكراً بغض النظر عن الشعارات المرفوعة، واصفاً ما يحدث في الوطن بأنه نتاج الوعي الوطني الذي سيُكمل طريقه نحو الحداثة. وأكد الحنيشي أن كل المظاهر السلبية ستزول فليس هُناك أسوأ مما هو كائن الآن، وبهذه العبارة يجزم بحتمية التغيير، وبما أننا كُنا نستمع لفنان الثورة السلمية أيوب طارش عبسي وهو يُحاكي سد مأرب حين ما تكرم الشيخ زايد بالاستعداد لتمويل المشروع بالاتفاق مع الشهيد الحمدي الحاضر في خضم الثورة الجديدة، يقول ناجي إن الأغاني الوطنية التي لم نكن نفهمها قبل سنوات ها نحن اليوم نتأمل في عباراتها ومدلولاتها، ونحن اليوم أكثر قدرة على استيعابها.. مشائخ مأرب المشائخ هُنا حاضرون ليس لمناصرة صالح وإنما للسعي بالإطاحة به، فالشيخ الشاب أحمد عبدربه العجي العواضي والذي سبق وأن أعلن انضمامه لصفوف الثورة مُبكرًا قرر الاعتصام لأيام في مخيم مأرب ليتحدث عن هموم المحافظة بالقول إن الشباب بحاجة إلى ندوات وورش عمل لتنمية مداركهم وتنمية وعيهم الوطني، مندداً بسياسات النظام في المحافظة وسعيه لإظهار أبناء مأرب كمرتزقة وقطاع طرق. وأعاد العجي سبب تشويه صورة مأرب للنظام، قائلاً إن الوقت قد حان لإزالة هذا التشويه، ولم يعدم العجي الوسيلة فقد واصل حديثة بالقول إن التحام أبناء مأرب في الاعتصامات والالتحاق بموكب التغيير وحمايتهم خير رد على سياسات النظام.. أ. سالم علوي الشريف حيا الثورة وشبابها مبدياً أسفه لما يصنعه النظام بين أبناء مأرب الذي سيزعجه توحدهم كما يقول.. وأضاف الشريف أن ملتقى أبناء مأرب كان سباقاً في اتخاذ مواقف وطنية في الكثير من القضايا رغم ما تشنه السلطة من حرب على كل القوى الجماهيرية في المحافظة. الجيش هُنا بأفراده، ولعل انضمام البعض منهم لم يجد التغطية الإعلامية المناسبة ولكن يكفي لقائنا بأحد المتقاعدين الذي ما زال بعيداً عن سن التقاعد فطالب أحمد بليم يتحدث وكأنه يحمل أثقالاً تراكمت على مدى خدمته في الجيش، فمن الفساد إلى الإفساد قائلاً إن النظام يعتمد في مأرب سياسة فرق تسد حتى تنشغل القبائل في الحروب والصراعات وينتبه هو للثروة، حتى أن النظام ينزعج لأي هدوء يعم المحافظة فيلجأ إلى استخدام بعض عناصره للقيام بالتفجير كما يقول، ومنهم ما يسمى بتنظيم القاعدة، حيث يؤكد أن كل المخربين في المحافظة لهم ارتباطات مع أجهزة الدولة.. لننهي حديثنا الطويل بمداخلة شعرية للشاعر صادق محمد المرادي ليجيب عن سؤال الرئيس من يرحل؟ غادرت مأرب محملاً أمانة المساهمة في إظهارها أمام الإعلام كما يريدها أبناءها لا كما يريدها النظام، غادرتها وأنا على يقين بحتمية التغيير ويحدوني الأمل بشمس جديدة تشرق على اليمن.. غادرتها وهي لم تغادرني.