علي محمد الصراري دام ربيع الديمقراطية في اليمن أربع سنوات فقط 90-94م وطوال احد عشر عاما مضت( 94-2005م) عادت البلاد أدراجها بخطوات متلاحقة نحو النظام الاستبدادي السابق للجمهورية العربية اليمنية فلم يبق من ديمقراطية الوحدة سوى الشعارات وبعض الشكليات التي فقدت معناها في الداخل وخفت بريقها الدعائي في الخارج. لقد أفضت حرب صيف عام 94م إلى إنهاء الشراكة الوطنية في إدارة دولة الوحدة عن طريق الإقصاء القسري للحزب الاشتراكي اليمني الذي خرج مغلوبا من حلبة الصراع العسكري وبالتالي غاب عامل التوازن الداخلي الذي أملى الديمقراطية كصيغة لتحقيق الوحدة وكنهج لإدارة الاختلافات السياسية والاجتماعية في مرحلة ما بعد تحقيقها وفور أن وضعت الحرب أوزارها وسيطر جناح الرئيس علي عبد الله صالح على كامل الأوضاع في البلاد، بدأت المسيرة المزدوجة لتراجع النهج الديمقراطي، ولإعادة إنتاج النظام الشطري الاستبدادي السابق الذي كان قائما في شمال اليمن، ومد نفوذه وفرض أساليبه في الإدارة والسيطرة ليشمل جنوباليمن أيضا، بما في ذلك إحياء القوى التقليدية وتمكنيها من الهيمنة، وإحلال سيطرة الأجهزة العسكرية والأمنية محل سيادة دولة القانون. وبقدر ما أفسحت نتائج الحرب المجال للتخلص من الحزب الاشتراكي اليمني شريك الوحدة فإنها مهدت الطريق أيضا لإقصاء التجمع اليمني للإصلاح ( شريك الحرب) والذي باءت جهوده من اجل الحفاظ على التحالف مع المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم بزعامة الرئيس علي عبد الله صالح) بالفشل وكانت نتائج الانتخابات البرلمانية عام 97م التي حقق فيها الأخير أغلبية مريحة مبررا لإقصاء تجمع الإصلاح من الائتلاف الحكومي وبالتالي تجميع خيوط السلطة والنفوذ في قبضة واحدة لرجل واحد. ولتكريس السيطرة المطلقة للرئيس شهدت الجمهورية اليمنية تعديلين دستوريين خطرين، الأول نفذ عام 94م عقب الحرب مباشرة ألغي بموجبه مجلس الرئاسة كسلطة عليا للدولة وفق دستور دولة الوحدة لصالح أن يشغل هذه الوظيفة رئيس للجمهورية وعن طريق البرلمان انتخب الرئيس (صالح) بصورة استثنائية على أن ينتخب الرئيس في الدورة التالية مباشرة من قبل الشعب من خلال انتخابات تنافسية وحدد الدستور المعدل مدة شغل هذا المنصب الرفيع بدورتين فقط، مدة كل واحدة منها خمس سنوات، إلا أن رغبة تحالف المعارضة في خوض الانتخابات الرئاسية التي جرت في ايلول سبتمبر 99م قد أجهضت ورفض مجلس النواب تزكية أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني علي صالح عباد " مقبل " لخوض التنافس الرئاسي مما افقد انتخابات ذلك العام طابع التنافس كشرط دستوري ومن الناحية الشكلية رشح احد قياديي الحزب الحاكم للعب هذا الدور الأمر الذي جعل الأوساط الوطنية والدولية تصرف أنظارها عن الاهتمام بتلك الانتخابات التي قوبلت بعزوف جماهيري منقطع النظير. ونفذ التعديل الدستوري الثاني في شباط / فبراير عام 2001م وفيه الغي احتساب مدة الرئاسة الأولى للرئيس علي عبد الله صالح ورفعت إلى سبع سنوات بدلا من خمس وأعطيت للرئيس بموجب هذا التعديل اختصاصات جديدة من بينها تعيين الغرفة الثانية للبرلمان (مجلس الشورى) وأعطي الرئيس سلطات أوسع بينها رئاسة مجلس القضاء الأعلى وبمقابل السلطات الواسعة الممنوحة للرئيس حال التعديل الدستوري الثاني دون محاسبة الرئيس أو مساءلته ولم تعد ممارسة السلطة تقترن بالمسؤولية عنها وكيف النظام السياسي ليغدو خليطا غير منسجم من النظامين الرئاسي والبرلماني لصالح تكريس الطابع الاستبدادي لسلطة الفرد. لقد اتسمت الأوضاع السياسية اليمنية بالانحسار بصورة عامة خلال العقد المنصرم على الرغم من الدعاية الإعلامية المكثفة للنظام حول التوجهات الديمقراطية في اليمن وما يزعم لها من جدية وفرادة وكذا التحركات والاتصالات الخارجية الواسعة لقيادات الحزب الحاكم بهدف إقناع الممولين الدوليين باستحقاق اليمن للمساعدات لقاء التزامها بالسير على النهج الديمقراطي ومع ذلك جمدت عضويتها في منتدى الديمقراطيات الناشئة لإخلالها بشروط الانتماء لهذا المنتدى الدولي واستبعدت من قائمة الدول المرشحة لمشروع الألفية الأمريكي لأسباب تتعلق بتراجع تجربتها السياسية وإخفاق برنامجها للإصلاح الاقتصادي وساءت سمعتها دوليا بشأن احترام الحريات وحقوق الإنسان. وعلى الصعيد الداخلي لم تتحسن صورة الدولة اليمنية فيما يتعلق بموقفها من نمو المجتمع المدني واستقلالية منظماته وتدخلت الأجهزة الحكومية بصورة سافرة في نشاط العديد من النقابات والمنظمات الأهلية مثل نقابات الأطباء والمهندسين و اتحادات المرأة والعمال وتعرضت الصحافة الأهلية والحزبية لمضايقات شديدة فيما اعتقل صحفيون وكتاب بسبب آرائهم وتعرض بعضهم لاعتداءات جسدية وتصاعدت موجة العداء للأحزاب سواء في الإعلام الرسمي أو من خلال الأجهزة الأمنية التي وصلت في الآونة الأخيرة حد احتلال المقر المركزي لحزب اتحاد القوى الشعبية المعارض بالقوة المسلحة والاستيلاء على مقر صحيفته المركزية (الشورى) وتغيير قيادة الحزب وطاقم صحيفته بمستخدمين في الأجهزة الأمنية. وخطوة اثر أخرى تسير اليمن نحو تكريس نموذج الحزب الواحد جراء ما يسميه اليمنيون بتفريغ الأحزاب وإفساد الحياة السياسية. وتراجع البناء المؤسسي للدولة بصورة خطيرة حيث تحل الفوضى والمزاجية محل القوانين واتساع حدة الانفلات الأمني وتعاظم نفوذ قوى الفساد وشبكة مصالحها ووضع تقرير الشفافية الدولية الأخير اليمن في أخر قائمة دول العالم بسبب تفشي الفساد وما يمارسه من سطو فاضح للممتلكات العامة والخاصة على حد سواء. كما أن الفساد الذي تعاني منه اليمن لم يعد ظاهرة استثنائية محدودة التأثير وتعمل في الخفاء بل صار يمثل القاعدة الحاكمة للنشاط الرسمي العام لأجهزة الدولة وعلى نحو يتسم بالشمولية. أي أن الفساد غدا يشكل محتوى الآلية التي تدار بها الدولة في وظائفها السياسية والاقتصادية والإدارية كأداة يمكن معها ضمان استمرار الحكم القائم واستبعاد خطر التنافس عليه من قبل مراكز القوى المختلفة خارج الحكم أو المحسوبة عليه، ففي حين تستخدم الوسائل العسكرية والأمنية في ضرب وإضعاف التيارات السياسية والاجتماعية والقبلية المعارضة أو المحتمل تنامي خطرها في المستقبل فان النظام يتبع سياسية أخرى في احتواء طموحات قوى النفوذ المحسوبة عليه، وذلك من خلال إطلاق يدها في نهب الممتلكات العامة والخاصة وتكوين مصالحها غير المشروعة التي لا يمكن توسيعها والحفاظ عليها إلا عن طريق مزيد من الولاء لقمة النظام، كما أن هذه المصالح غير المشروعة تصنع سقف طموحات هذه القوى الذي لا يرتفع إلى مستوى الرغبة في الاستيلاء على السلطة أو لعب دور الشريك في اتخاذ قراراتها وتحديد اختياراتها الرئيسية. وبطبيعة الحال تكاملت الآلية التي يدار بها البلد على المستويين المحلي والوطني وأخذت ابرز صفاتها من بعدين أساسيين الأول الولاء لقمة النظام، والثاني في الحصول على المصالح غير المشروعة كثمن لولاء فردي غير مؤطر بأي لون من العقائد أو الانتماء لمشروع سياسي محدد المعالم. غير أن هذه السياسة التي شكلت مضمون النهج الرسمي للنظام في الجمهورية اليمنية منذ نهاية حرب صيف عام 94م قد أدت إلى بروز معضلات كبرى تواجه اليمن في الوقت الراهن وسيكون لها بصماتها في تقرير مصائره، ويمكن تلخيص هذه المعضلات بالنقاط الثلاث الآتية: الأولى: تناقض صارخ بين الشعارات التي يرفعها النظام وبين المضمون الحقيقي لسياساته وتوجهاته التي تدحض أية مفاهيم عن الديمقراطية في ظل انعدام سيادة القانون والاعتماد الكلي في إدارة البلاد على الأجهزة العسكرية والأمنية وعدم توفر أية إمكانية لانتقال السلطة سلميا ولا عن الجمهورية مع السير نحو توريث السلطة وتحويلها إلى أداة للسيطرة العائلية ولاعن الحداثة في ظل ترسيخ البنى التقليدية سواء على صعيد الوعي أو على صعيد البنى الاجتماعية وكذا على مستوى الدور السياسي والاقتصادي وقد نشأت عن هذا الوضع أزمات حادة في الحلقة الضيقة المتربعة على قمة الهرم السياسي بما تنطوي عليه من احتمالات الانفجار المفاجئ خاصة أن رقعة المغانم تضييق شيئا فشيئا مع تقدم جيل الأبناء لنيل حصصهم من الثروة والنفوذ من ناحية، ومترتبات التوريث التي تستدعي إجراء بعض التعديلات على خارطة مواقع القوة والنفوذ. الثانية: نشوء أزمات داخلية عديدة آخذة سبيلها إلى التفاقم تتجلى في وصول التجربة السياسية إلى نهاية مسدودة تشير إلى تضاؤل إمكانية التغيير السياسي السلمي وفي ركود عملية التنمية الاقتصادية وفشل برامج الإصلاح الاقتصادي التي نجم عنها تهاوي حياة 85% من السكان إلى ما تحت خط الفقر ووصول معدلات البطالة إلى أكثر من 50% من عدد القادرين على العمل، وفي الاحتقانات الاجتماعية الخطيرة التي تعبر عن نفسها في تنامي ظاهرة العنف، سواء جراء الحروب القبلية المنتشرة على طول وعرض اليمن، أو في الاستعداء المتبادل بين السلطة والشعب لاستخدام العنف كما حدث في المظاهرات الأخيرة بعد صدور الجرعة السعرية الجديدة، وبالتوازي مع هذه الاحتقانات السياسية والاجتماعية تشهد اليمن احتقانات تهدد وحدتها الداخلية ناجمة عن سياسة التمييز بين المواطنين والمناطق وعن الرفض الرسمي لتصفية آثار حرب صيف عام 94م وفشل المشروع الوحدوي السلمي مما أفضى إلى تراجع إيمان المواطنين بالوحدة وضعف تأييدهم لها، وفي الوقت نفسه تشهد اليمن اليوم انتعاشا كبيرا لمختلف النزعات القبلية والجهوية والطائفية ردا على هذه النزعات المتسيدة فيها والتي تخلق أشكالا من المعارضة تنتمي إلى جنسها. الثالثة: اتساع الهوة بين الأوضاع اليمنية الداخلية وبين المطالب الدولية المطروحة أمام السلطات اليمنية فالمجتمع الدولي الذي أحاط المشروع الوحدوي الديمقراطي في اليمن في مرحلته الأولى عام 90م بالاهتمام والرعاية بدأت تداخله خيبة الأمل من أن يتحول هذا البلد إلى بلد مستقر وديمقراطي ينفذ توجهات ناجحة في تحديث بناه السياسية والاجتماعية ويسير على الطريق الصحيح في إصلاح أوضاعه الاقتصادية. ويلبي الشروط الدولية في إعادة صياغة أوضاعه الداخلية بما يؤدي إلى معالجة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المولدة للإرهاب الذي غدا ظاهرة خطيرة تقض مضاجع المراكز المدنية والحضارية المعاصرة في العالم، وفي حين تزداد مطالب المجتمع الدولي بأهمية تحقيق إصلاحات سياسية في اليمن وفي المنطقة العربية وضوحا ويدل على ذلك المشاريع المطروحة بهذا الصدد من قبل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، يزداد رفض السلطات اليمنية لهذه الإصلاحات على الرغم من إبداء القبول الدعائي بها، إلا أن السلوك العملي لهذه السلطات يأخذ منحى معاكسا إلى درجة أنها غدت ترى في هذه الإصلاحات مؤامرة جديدة معادية لليمن لا تتوانى معها في اتهام المعارضة الإصلاحية الداخلية بالعمالة للخارج والعمل ضد المصالح الوطنية لحساب الخارج. وسط هذه الأجواء والأوضاع المعقدة في اليمن جاء تصريح الرئيس علي عبد الله صالح الأخير حول عدم رغبته في الترشح مرة أخرى لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة المزمعة في ايلول / سبتمبر من العام القادم الأمر الذي أراد من خلاله أن يترك انطباعا مزدوجا يشير الأول إلى أن اليمن قادمة على إنجاز التحول الديمقراطي الأهم في تجربتها السياسية بتحقيق الانتقال الديمقراطي للسلطة والمعني بهذا الانطباع المجتمع الدولي المصاب بخيبة الأمل من مصداقية اليمن في السير على نهج الإصلاحات والديمقراطية وكذا الرأي العام الوطني في الداخل المتشكك من فحوى الدعايات الإعلامية للنظام على أن تصريح الرئيس هذا يفتقر للسند الواقعي الذي ينبغي أن يتجسد بوجود مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة كأدوات يجري من خلالها الانتقال السلمي للسلطة باعتبار هذه المؤسسات جسر انتقال السلطة بعيدا عن احتمالات الوقوع في الفوضى الشاملة ووحدة انهيار المجتمع السياسي. هذا الإعلان عن عزوف الرئيس عن البقاء في قمة السلطة سبقته إعلانات مماثلة في المواعيد المحددة للانتخابات الرئاسية ولم يكن يهتم احد بالكيفية التي تخلى بها الرئيس عن هذه الوعود التي لازمته سبعة وعشرين عاما من التفرد بالسلطة إلا بمعنى الانصياع لرغبة الشعب الذي يتمسك بزعامته، ولا يقبل بغيره بديلا، ومع ذلك لم يدقق احد في حقيقة أن الشعب اختار أم أعيد الاختيار باسمه. الإعلان الأخير تزامن مع بروز مظاهر الشيخوخة المبكرة للتجربة الديمقراطية المزعومة في اليمن وظهور أدلة قاطعة تؤكد عجز إمكانية التحول الديمقراطي في هذا البلد الأمر الذي يشير إلى أن لعبة تمسك الشعب بزعامة الرئيس وخضوع الرئيس في نهاية المطاف لهذه الرغبة هي الآن قيد التكرار بدون إضافات تمنع الناس عن الشعور بالملل نحوها. وما لم تشهد اليمن تطورات مفاجئة على نحو ما شهدته موريتانيا في الآونة الأخيرة فان وعد الرئيس بعدم الترشح ستذروه الرياح وستعاد التمثيلية ذاتها بحذافيرها المملة. والسؤال الآن: هل الشعب اليمني لا يزال قادرا على مواصلة العيش في ظل أوضاع كهذه؟ وهل المجتمع الدولي يستطيع الاستمرار في قبول أوضاع كهذه؟ سيكون الاستمرار ممكنا في حالتين اثنتين فقط، حالة السذاجة الشاملة، أو أن يلتزم الرئيس ببرنامج حقيقي للإصلاحات السياسية الديمقراطية تحت رقابة الشعب والمجتمع الدولي. *عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني نقلا عن مجلة " المراقب العربي " اللندنية