تقوم "عقيدة الصدمة" (عنوان كتاب عن صعود الرأسمالية المتوحشة، ناعومي كلاين 2009) على مبدأ استغلال الكوارث الكبيرة بأنواعها الطبيعية أو الناجمة عن الحروب أو نتيجة انهيارات داخل المجتمعات، والتي تتسبب في صدمات سيكولوجية عامة تضع تلك الشعوب المصابة تحت سلطان الهلع الذي يقود الى تسوية أرضية الذاكرة من خلال مسح البيانات الحسية بحيث تصبح ككتلة صماء جاهزة للاشتغال عليها بأزاميل قوانين السياسات الاقتصادية النيوليبرالية لخدمة المؤسسات الرأسمالية. وهو نهج لاديمقراطي في تكريس أنظمة السوق الحر التي أصبحت سمة رئيسية للاقتصاد العالمي، بل وتُعتبر الحروب مشروع استثمار رأسمالي متنوع وضخم يتحقق من خلال ما يسمى "تمرير العلاج بالصدمات". أما "إدارة التوحش" فهو كتاب ألفه كاتب محلي (بإسم مستعار)، وضع فيه فصول متعددة ومتشابكة لكنها في الأخير تقر بأن تلك الإدارة هي المرحلة الأخطر التي تعيش فيها الأمة، وتلخص فكرة رئيسية تقوم على "ضرورة استغلال مناطق الفوضى" التي تظهر بعد حروب أو انقلابات أو انهيارات أو كوارث من أجل إنشاء، وبسط نفوذ الدولة الاسلامية، أي أن تبنى الدولة الإسلامية الفاضلة بوسائل متوحشة تعافها الأديان والأخلاق الإنسانية. ويتم في حاضرنا المرعب بشكل أو بآخر تطبيق العقيدة والإدارة بشكل ثنائي متكامل يقود الى نتيجة واحدة بحيث تصبح المقدرات العربية المادية والروحية عرضة للنهب الخارجي بينما داخلياً يتم ارتكاب الفضائع ألتي وصلت صورها الى قارات العالم وشعوبها وألحقت ضرراً بالغاً بالهوية الاسلامية في أذهان العامة من غير المسلمين. وهكذا اصبحت المنطقة بأسرها رهينة النظام الرأسمالي المتعطش وإدارة التطرف الإسلامي المتوحش. معلوم أن المنطقة العربية مرت بحالات من الصدمات الكبيرة لفترات طويلة ومتكررة خلفت ذهول وهلوسات تراكمت حتى تكاد أن تنغمس في السياق الجيني لسكانها، ليتم ربما تسجيلها لاحقاً، إن طالت وتعمقت، في الشفرة الوراثية للبشرية العربية. لقد عاصر عالم العرب هزات غيرت ملامحه السياسية والثقافية والنفسية إبتداء من حرب 67م، التي قادت إلى تفكيك المشروع القومي وأدخلت قضية فلسطين في دهاليز المساومات اللانهائية بل وفضحت هشاشة الدول العربية والمفارقات العظيمة بين الخطاب والسلوك، ومروراً بحرب العراق واحتلاله، ثم تنامي ظاهرة الإرهاب الديني والصراعات الطائفية الدموية. وهذه الأخيرة تمثل مُنتج نهائي للهزات الروحية والجسدية ذات الجذور البعيدة في التاريخ الاسلامي والتي تم تفعيل نموها لمقتضيات الصراع والحروب بالوكالة. عقيدة صدمات الحروب الكبيرة التي يطبقها الغرب الرأسمالي في المنطقة ويمرر علاجها بأشكال متعددة وتحت ذرائع تتناسل وتتشعب، وإدارة التوحش التي تجسد أقصى حالات الخيال لمريض معتل نفسيا، انعدمت لديه وظيفة الضمير، متلازمتان أدخلتا العرب في حالة استنزاف فضيع لم يحصل لأي أُمة في التاريخ الحديث، يتم من خلالها استلاب ونهب للدين والثروة والثقافة.. وليست الفضاعة هنا بل الفضاعة بأن الأمة تقتل نفسها أو تستدعي من يقتلها وتدفع له الأجر المجزي. لا أحد يستطيع أن يتصور أن تداعيات الأزمات المختلفة، التي ما تزال تتجذر وتتشعب بشكل مرعب في المجتمع العربي، سوف تستمر خلال زمن منتظر ومرتقب وتتسبب في اشعال الحروب (التنظيفية) بمسميات مختلفة، لسنوات أو لعقود. وهي مدة ليست مقدرة بشكل دقيق ونهائي لأنها ستكون مطاطية ومرنة جداً كيفما تقتضي الحاجة الماسة عند الغرب للإستثمار فيها، وإطلاق يده لحصاد طويل يسلب من خلاله بلاد العُرب بخيامها ونوقها وأسواقها ويتركها مغتصبة، ملوثة، مرهقة، فاقدة للذاكرة، ثم يستلم أجره وينصرف ليتركها خلفه تستغيث به مرة ثانية، وهكذا، في دورة شيطانية لن تصحو منها الا بصبح وما الصبح بقريب. لا يجد المرء لحظة زمنية محددة تحمل على كاهلها كل أثقال التاريخ وتعقيداته ومساوئه كالراهن العربي وهذا يفسر الضياع الشديد والبؤس الذي يعيشه العقل العربي أيضاً، مع غياب مخيف لدور المثقف والفيلسوف والمصلح الديني والاجتماعي ورواد الفكر. ولأن العرب يفتقدون كل شيء عدا جعير الكلام فأن فضائياتهم ومنابرهم مسخرة لما يخدم مشاريع تمهد لهندسة الصدمة الآتية من وراء البحار، والتوحش البلدي جداً الذي يتقمص روحانية الخلافة العصماء. زمن يستحق بكاء وعويل على خط نواكشوط باب المندب. فما الذي بقي لا يستحق الرثاء غير مستقبل بعيد ربما سيأتي قبل أن تصبح الأُمة جماعات متفرقة من " السكان الأصليين ".