حين يغيب العقلُ وتحضر البندقية. . تختفي الملائكة من بيننا وتحضر الشياطين. . ليس أمامك ، وأنت المشغولُ قلبُك بالألم وعقلُك بالتدبير ، من خيار سوى أن تتجاسر على كل ألم من حولك. .ألمك وألم الآخرين. أن تربط على حواسّك. .على عينيك وأذنيك ، على قلبك. .وتمضي. امضِ ، بعد أن أرّقك التفكير والحيرة ، حيثُ قدرُك. . لا متسعَ من الزمن لترتيب الأشياء. .لا فسحة في العقل لإدراك الأولويات وتحديدها. . كلّ شيء في ظل أجواء الحرب يأخذ الرقم نفسه من الأهمية والترتيب ، الرقم (1). .ليس ثمةَ معطوفاتٌ عدديةٌ ، ولا منازلُ رقميةٌ سوى أن تنجو بمن معك وما يمكن أن تحمله معك من متاع يبلّغك المكان المجهول!! المكان الذي يأويك. .يحتويك وصغارِك ونسائك ، بعد أن لفظك وإيّاهم والملايين من الموجوعين ، وطنُك الرحبُ بمساحته الكبيرة ، الضيّق بصدور بعض من ينتمون إليه هُويّةً لا حبًّا ، وهم من يزعمون حبّه في كل المجامع والمحافل والملتقيات. . من ينتمون إليه أنانية واستحواذًا ، لا بذلًا وتضحيةً وفداءً ، وهم من نسمعهم ونراهم منذ نعومة أظفارنا ليلَ نهار يتغنّون بذلك. . من يخدشون وجهه الصبيح بمخالب الشيطان ، ويخربشون جسده الجميل بقبحهم رغم فيض جماله وفيض نواله. . من يطعنونه في الصميم غدرًا ، ويدَعونه ينزف دماءً ودموعًا. .ألمًا وأنينًا. . ما آلمَ أن يطعنك غدرًا من لم تتوقع منه أن يحمل مُدية في يده ، وحقدًا في قلبه. .وشرًّا في عينيه!!. .حينئذ يكون الموت على يديه أشدّ مرارةً من الموت بيد عدوّ. . ما آلمَ الوطنَ لحظة يحتضر على يد بنيه!! امضِ إذن نازحًا عنه. . لملم جراحَك هاجر منه إليه إنه قدرُك. . هل ، من قدرك المحتوم. .من مفرّ؟! سيلحّ عليك صغارُك ، وهم صغارٌ بأجسادهم ، كبارٌ بصبرهم. .كبارٌ بتحملهم المأساةَ والألم. . المأساةَ التي لم يدركوا كنهها ولا حجمها ، والألمَ الذي يغتلي في صدورهم ولا يعلمون له سببا... سيلحّون ببراءتهم ويحثونك على أن تسافر بهم – والسفرُ غيرُ النزوح – من عاصمة الحرب إلى مدن لم يتناهَ إلى سمعهم أن كلّ واحدة منها صارت هي الأخرى عاصمة للدماء وللدمار. .للقتل والموت. .الموت بآلة الدمار ، والموت قهرًا من كيد الرجال... صارت مدنًا للإخوة الأشباح حين لم يعُدْ للحوار من لغة سوى البندقية. .وسوى التكفير والتفجير. . صارت مدنًا للأشباح حين لم يعدْ للإخوة أبٌ يجمعهم على كلمة سواء ، ولم يعدْ فيهم من رجل رشيد. .ليس سوى رجالٍ– وآهٍ من قهر الرجال – تلطخت أيديهم بالدماء. .تملّكت أرواحَهم الشياطين ؛ فعبثوا بكل شيء جميل. .أول هذه الأشياء الجميلة هو الإنسان ، وليس آخرُها كلّ منظر جميل في وطنٍ هو الأجمل. . حين يغيب العقل وتحضر البندقية. . يطيش الرصاص يتوزّع الموت ، بلا رحمة ، في كلّ مكان. . فلا وردةَ تلامس خدّ أنثى ولا عطرَ يفوحُ من مدن البخور. . لا أرجوحة تشتاق لمرح طفلٍ ولا شحرور يغرّد فوق غصن. . لا ربابة تشدو ولا عروسَ ترقصُ في زفافها. . الرصاص فقط من يرقص. . ولكنْ. .على أشلائنا!! والنار فحسب تحتفي. . ولكن بأحزاننا !! أمام حزنك المتوشح بالصمت. .أمام صمتك الحزين ، والحيرة تتناوش أفكارك ، وأنت على أهبة الرحيل بصمت إلى حيث لا تعلم. .يلحّ صغارك ثانية – فيما النساء مستسلماتٌ لقدر يختبئ تحت الجفون – أن تذهب بهم للبحر ؛ لعلّ مياهه الغامرةَ وحدها ستغمرهم فرحًا وسعادةً ، بعد أن غمرتهم مدنُ الأشباح برياح سُمومها وروائح جثث بنيها الملقاة على شوارعها وأزقة حاراتها. .إن لم تكن أنت وإياهم بعضًا من هؤلاء الغرقى في هذه المحرقة الكبيرة!! لعلّ أمواجه المتدافعةَ تدفع بأجسادهم الصغيرة علوًّا وهبوطًا ، بعد أن تدافعتها الأحداث المؤلمة مرارًا إلى حيثُ لا تدرك موضعَ اطمئنانها من قلقها ، واستقرارها من عدمه. . لعل اصطخاب البحر يشنّف أسماعهم بأوتار مدّه وجزره. .بغناء طيوره الجميلة ، ورقص أسماكه الملوّنة على إيقاع أمواجه المتباطئة حينًا ، المتسارعة حينًا آخر. . بعد أن كادت تخرق أسماعهم صواعق صوت الطائرات ، وأزيز الرصاص ، ودويُّ المدافع. .بلْهَ صراخُ المتساقطين في محرقة الحرب بلا ذنب. . لربما منظر البحر وحياة البحر تجلو عن أبصارهم غشاوة قذى تلك الصور المؤلمة ومناظر الدماء والدمار المتجدد... ربما رائحة البحر وحدها تنعشهم بعد أن أزكمت أنوفهم الروائحُ السامّة وأصابتهم بالصداع الشديد... هكذا يرون البحر. . يتخيلونه بعد أن افتقدوا الحدائق العامّة والمتنزّهات. .بعد أن ولىّ الربيع بلا زهور ولا ألوان. .وبعد أن مضت مواسمُ الطبيعة خائفة تترقب... حين يغيب العقلُ وتحضر البندقية. . يفرّ البحر من أمواجه تتنكّر الأسماك الجميلة لألوانها الزاهية. . لا أنثى تقف على ساحله ليداعب خديها النسيم ولا أطفالَ يرسمون أحلامهم على رماله. . لا قارب صيّاد يرسو على شاطئه بحثًا عن روح بنيه ولا موانئَ تستقبل الحياة. . ليس سوى بوارجَ للموت تقذفه في كل اتجاه!! * * * حين يغيب العقلُ وتحضر البندقية. . تختفي الملائكة من بيننا وتحضر الشياطين. . * * *