الي اين تمضي بنا القضية الجنوبية ؟ والى اين يمضي بها الفاعلون في إطارها وباسمها؟ من هذين السؤالين انطلق في الكتابة عن ما اتفق في المبتدأ على تسميته بالقضية الجنوبية. ويلزمني ارتكازا على مفارقات الحرب والحوار التأكيد على ان الميادن الديمقراطية هي التي تمنح القضايا حيوية في مضمار نيل العدالة. ولهذا فقد منح مؤتمر الحوار الوطني القضية الجنوبية ليس مشروعيتها الجمعية والوطنية فوق مشروعيتها السياسية والقانونية - كقضية ترتكز على مطالب بتحقيق الانصاف السياسي وجبر الضرر والمواطنة- فقط ولكن مرتبة القضية الوطنية الاولى. وهذا مكسب سياسي هام جدا ما كان ينبغي ان يفرط به. تأخذ هذه القضية مكانة مركزية في التاريخ السياسي لليمن في الثلاثة العقود الاخيرة من تحقيق الوحدة وحرب صيف 94. وبدأت القضية في شكلها الاول رفضا للمظالم ثم رفضا للنظام؛ أي نظام صالح، والتقت باصوات استعادة دولة الجنوب ثم توجهت الحركة الى معاداة الأحمر (بكل تنويعاته) وانسحبت الى معاداة الإصلاح وهو حزب سياسي ذو طابع ديني الى ان تحركت بشراسة لرفض الشمالي وبعض الجغرافيات الجزئية من الشمال. وها هي قد استكانت وآلت إلى تيه نخبوي كبير بين الرفض والقبول ببقايا نظام صالح ونست الحوثيين مع تبعية وارتباط إقليميين كبيرين. تأتي الطعنة الأكبر في خاصرة القضية الجنوبية من زاويتين. اولاً تيه النخب المتحدثة باسم القضية وثانيا من الصوت الغفلي/المجهولة الذي يملأ وسائل التواصل الاجتماعي ويملأ الدنيا شحنا وغضبا وعبثية وعدوانية ولاعقلانية. ثانيا، لأن الخطاب الشعبوي وصل الى اعلى حد وبلغ اقتتالا محليا في عدن وفوت فرصة النهوض على المدينة من ناحية. ومن ناحية اخرى، لأن تبعات الفوضى في الجنوب عامة وفِي عدن على وجه الخصوص - بعيدا عن من هي اطرافها - هي التي تمد كثيرا طرفي التهديد الوجودي لليمن وللإقليم بعناصر القوة. اقصد ب طرفي التهديد الوجودي القاعدة والحوثيين. فهما رغم تعارضهما مذهبيا الا إنهما مشتركان في الغاية وهي هدم الدولة اليمنية وإقامة صيغة حكم متشابهة من حيث قوامها الديني الاقصائي ورفضهما للحريات العامة والديمقراطية والشراكة المجتمعية. تبدو نخب الجنوب الناطقة والمتحركة باسم القضية الجنوبية بكافة تنويعاتها تائهة وخطرا على القضية وعدالتها وأصالتها. ولأن النخب لم تكن صادقة مع نفسها ولا مع جمهورها وطرحت اطروحات متشددة غير واقعية ولا ممكنة لا سياسيا ولا اقتصاديا في هذه المرحلة بكل تأكيد. لقد جرى التمسك باطار دولة الجنوب والهروب من مضامين هذه الدولة التي تبشر نواتها الان بأنها خليط من أزمات مناطقية مع كتلة سلفية دينية متشددة. ابحرت هذه النخب بالقضية الى ورطة وجودية نتيجة لسلوك انتهازي وإقصائي لا يرتكز على مصالحة تاريخية حقيقية إنما ترقيع وتوزيع أسباب الفشل التاريخي لتجربة دولة الجنوب بالمؤامرات وتجاوز الوقائع التاريخية والقفز على الجغرافيا وحتمياتها مع اتكاء على الشعبوية وتسفيه الشمالي وادعاء فوقية حضارية على الشمال غير مبررة. بالتاي خطر القضية ينعكس على نفسها وعلى محيطها. على نفسها لانها تبنت خطابا شعبويا عدائيا لا يقوم على أسس واضحة مستقبلية. غابت مفردات تتحدث عن المستقبل السياسي للجنوب من قبيل الديمقراطية والمشاركة وطبيعة النظام المنظور اقتصاديا وثقافيا. ولهذا فإن بذور الصراع المناطقي ممكنة جدا وبدأت بالفعل قبل شهور في معركة عابثة أوقفها التحالف العربي ولم ينه اسبابها. لكنها معطِلة لأي صيغة استقرار في اليمن بشكله الموحد الفدرالي او المركزي. وهي ايضا معطلة للاستقرار في منطقة استراتيجية هامة عالميا. يعلم قادة الجنوب، بالتجربة، ان كل من القاعدة والحوثيين عينهم على عدن. أزاحت المقاومة والجيش بدعم من التحالف في الجنوب خطر الحوثي الى الشمال قليلا. وبذلت جهودا في تقليص خطر التنظيمات الإرهابية في الجنوب. وبدل ان تتحالف النخب الجنوبية مع مكونات يمنية للقضاء على الخطرين. انشغلت في تمكين نفسها في دائرة جغرافية ضيقة حول عدن على حساب استحقاقات مرحلية وطنية أولها تطبيع الحياة في المناطق المستعادة واستكمال العملية العسكرية لاستعادة الدولة اليمنية من الانقلابيين . استسلمت هذه النخب للتباينات داخل التحالف وأضاعت فرص تاريخية هامة من اجل القضاء على خطر القاعدة المزمن في الجنوب منذ قرابة ربع قرن وخطر الحوثية. ازالة هذين الخطرين هي الضمانة الاولى لتمكين القضية الجنوبية سياسية في أية معادلة مستقبلية لليمن. اذ لا أقاليم ولا كونفدرالية في ظل تهديد أمني ووجودي للحوثية. ولا دولة في الجنوب في ظل تهديد تنظيم القاعدة. ما هو المشهد الحالي في الجنوب؟ من قضية استعادة دولة الى انقسام داخلي ونذر احتراب بينية وحضور قوي لتهديد القاعدة مع تنامي للجماعات السلفية المسلحة. فقدان للتوجه السياسي للنخب وهيمنة الأفكار المتطرفة وتنفيذ اغتيالات تمس الحريات العامة. انقسام مناطقي داخل الجنوب نفسه. تعدد الكيانات مع نزوع حضرموت الى تشكيل كيان اكثر استقلالا وثباتا. ولهذا من الانصاف والموضوعية ان نتحدث عن قضايا جنوبية لا قضية جنوبية واحدة بالنظر الى الاشكالات القائمة في الجنوب والذي تتجاوز فكرة استعادة دولة الجنوب الى الشؤون الجنوبية كافة وأخطارها المحلية والإقليمية. نلاحظ التالي: مع انتقال السلطة من صالح الى هادي واستحواذ الجنوبيون على كل مفاصل الحكم لم تعد للبلاغة الانفصالية اي وجاهة وعدم اعتراف بعض الجنوبيين ببعضهم الاخر او رفضهم للرئيس هادي لا يغير من هذا الواقع شيئا. كما ان استمرار المضالم وحالة الفساد وتعثر الاداء مع مشاركة المجلس الانتقالي كليا او جزييا ي تشغيل عدن والسيطرة على الفضاء العام فيه تعرية لحجج المضالم والاستيلاء على مقدرات الجنوب لان مراكز الفساد والسلطة والاستيلاء على الاراضي والنهب هي جنوبية. بالمقابل هناك حالة تغني واستمراء بخطاب المضلومية وتوجيه التهم للشمال تهربا من استحقاقات المراجعة والصدق مع الذات. التهديدات الأمنية ليست شانا جنوبيا صرفا وحالة اللاستقرار المُحتملة تجعل مِن معالجة القضايا الجنوبية شانا يمنيا واقليميا على ان تكون معالجته في إطار معالجة الشأن اليمني برمته نظرا لتداخله الأسباب والتداعيات في جذور ونشأت القضايا الجنوبية وتداعياتها على الشأن اليمني. والخلاصة امام هذا التيه، على جميع الأطراف المحلية والإقليمية اعادة النظر في حجم وعقلانية القضية الجنوبية. اولا، لم تعد أصالة القضية كافية لتكون القضية الجنوبية هي القضية الاولى في اليمن بسبب العبث الذي تمارسه نخب الوصاية على هذه القضية وحالة الاستنزاف للجهود والمقدرات الوطنية لليمن. ثانيا التطورات التي تقع في الجنوب لها تبعات خطيرة على المدى القصير والمتوسط وتضع الجميع امام تحدي تجاوز هذا الفشل الآني في تعقيدات المشهد اليمني. ما يزال الحوثي خطرا كبيرا على اليمن وعلى الإقليم وهامش الاستمرار في العمليات العسكرية من طرف التحالف يتقلص امام الضغط الدولي مع تفاقم الحالة الانسانية وفشل تقديم مثال ناجح للمناطق المستعادة. عدن هي مقياس المراقبين للاوضاع في اليمن. ومن العيب ان تقع محافظة الضالع ضمن المناطق الأكثر ضررا انسانيا والمهددة بالمجاعة بعد هذه المدة من خروج الحوثيين وقوات صالح منها. ثالثا وأخيرا وبعد اكثر من ثلاث سنوات فان القضية الاولى في اليمن بالنسبة للمراقب الخارجي هي التدهور الإنساني والامني في اليمن. ... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet