كتب/علي محسن حميد تحل هذه الأيام الذكرى الثامنة لاغتيال الشهيد جارالله عمر الأمين العام المساعد للحزب الإشتراكي اليمني وهي ذكرى مؤلمة تجدد الأحزان وتذكر في نفس الوقت بخسارة وطنية لقائد وطني وعربي وبنضال الشهيد الدؤوب من أجل وطن جمهوري وحدوي ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية ويسير إلى الأمام . ولابأس من العودة قليلا لتذكير شباب وشابات اليوم ببدايات جارالله الفكرية والنضالية الذين لم يتسن لبعضهم بعد اغتياله الجبان أن يلموا بمسيرته النضالية من أجل غد أفضل لهم وهو الذي كان يرى لهم مايرى لأولاده . وكأي مقال فإن مابين أيدي القراء والقارئات لايلم بكل تفاصيل حياة جارالله الحافلة بالعطاء. بعد وفاة والد جارالله في قرية كهال مديرية النادرة محافظة إب، أدرك أن التعليم هو أكبر تعويض عن فقد الوالد كبير العائلة ومعيلها وقد ذهب إلى ذمار ضد إرادة والدته التي قالت إنها لو تستطيع أن تضعه في حدقات عينيها لفعلت لئلا يفارقها ويذهب بعيدا عنها حتى ولو كان ذلك في سبيل العلم. وفي صراع الإرادتين انتصرت إرادة جارالله وذهب إلى المدرسة الشمسية في ذمار التي كانت لواء (محافظة) وكانت إب تتبعها . كانت ذمار عالما آخر ولكنها لم تصبه بالدهشة التي احدثتها النادرة – دهشته الأولى - عندما رآها لأول مرة ولم تفعل ذلك أي مدينة أخرى في العالم فيما بعد. وكانت المدرسة الشمسية في ذمار مدرستين في واقع الأمر زيدية متشيعة وسنية . وكان التعايش بين المدرستين قائما لاتشوبه عصبية أو نزعة تكفيرية وكان المجال متاحا للمدرسة السنية للتعبير عن نفسها بحرية وكان من رموزها الديلمي ويحي الإرياني وأحمد سلامة والسيد إسماعيل السوسة . وكزيدي آت من قرية معزولة عن محيطها وليس عن العالم فقط تشيع جارالله في ذمار و استمر تشيعه لبعض الوقت في المدرسة العلمية بصنعاء . وفي رأيي أن أسباب تشيعه عديدة منها أنه غادر قريته وعمره في الثانية عشرة تقريبا ولاشك أنه كان فيها من يتشيع، وأن المذهب الزيدي مذهب خروج على الحاكم الظالم ومذهب تغييري وكان رمزه أو مثله الأعلى كما يقول محمد عبد السلام منصور علي إبن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان قاد أول تيار إصلاحي في الإسلام.وفي المدرسة العلمية بصنعاء تحول التشيع المذهبي القصير الأجل والنظر إلى تشيع سياسي خاص بالوطن بكامله . وفي المدرسة العلمية بدأ ت رحلة جارالله الطويلة وهي رحلة العمر كله مع مشروع التغيير .وقد واتته الفرصة عندما رشحه زملاء له بعضهم كمحمد محرم زاملوه في ذمارللقاء القاضي مالك الإرياني الأستاذ فيما بعد القادم من تعز لاستقطاب شباب لحركة القوميين العرب – فرع اليمن- وكانت اشتراطات مالك أن يكون المرشح محبا للقراءة ويحسن التخاطب وهما صفتان تتوفران في جارالله مضافا إليهما ذكاؤه ووعيه المبكر ونبوغه بشهادة زملائه. ووجد جارالله في مالك ضالته المنشودة وأعجب بمالك أيما إعجاب وإن تغير رأيه حوله في السنين الأخيرة من عمر الإثنين . ولم ينضم جارالله بدون ترو إلى الحركة لأن التروي كان من طبائعه. وفي المدرسة العلمية استثمر جارالله ثقافته وسعة اطلاعه لتنظم سهرة أسبوعية أدبية مساء كل خميس كان هو الذي يديرها وأحد أهم المتحدثين فيها وكان يسهم فيها بعض الحضور بقصائد شعرية أو موضوع أدبي. وكان هذا النشاط غير مألوف في المدرسة العلمية وبرغم بعده عن تناول القضايا السياسية فقد أصدرت المدرسة أمرا بإيقافه .كانت إدارة جارالله للسهرة تتسم بالمقدرة والكفاءة وكانت تلك السهرة تجربته الأولى في الوقوف أمام جمهور يحاوره ويخاطبه. وفي العام 1963 التحق جارالله بكلية الشرطة وبحركة القوميين العرب . وكانت الكلية مجالا لاستقطاب أعضاء من طلبة الكلية ووقتها تواجد في صنعاء القائد الحزبي ذو الثقافة العميقة عبد الحافظ قايد للإشراف على هذا النشاط المستجد. وبعد تخرج جارالله عام 1965 من الكلية عمل مدرسا فيها وفي عام 1967 شارك في حرب السبعين يوما مدافعا عن الجمهورية ضمن الجماهير التي رفعت شعار " الجمهورية أو الموت".وكان رفاقه من المدنيين والعسكريين في تلك المقاومة محمد محرم ومحمد عبدالسلام منصور ويحي الشامي وعمر الجاوي وعلي محمد زيد وعبدالله محمد العلفي وعبد الرقيب الحربي ومئات غيرهم من الموظفين المدنيين وطلبة المدارس ( لم تكن توجد جامعة في صنعا أنذاك). وكان جارالله من القادة الشباب في المقاومة وكان لتنظيمه السياسي حركة القوميين العرب – فرع اليمن- باع طويل في الدفاع عن الجمهورية وفي تحقيق النصر مع رفاق من البعث والشبيبة ورموز عسكرية كبيرة كالفريق العمري والنقيب عبد الرقيب عبد الوهاب والقطاع المدني الذي انضوى في إطار المقاومة الشعبية . وهؤلاء هم الذين صمدوا ولم يولوا الأدبار ويتخلوا عن الواجب الوطني والعسكري في أحلك ظرف تمر به الجمهورية وكان ظرفا مصيريا بكل ماتعنيه العبارة من معنى . ومن غرائب الأمور أن الفارين صنعوا لأنفسهم أدورا بطولية ودبجوا مذكرات بعض صفحاتها يحوي زيفا وباطلا وضلالا.من هؤلاء من قال وقتها الأفضل أن نرحل من هنا لأن الحياة لاتطاق في صنعاء وغادر إلى الحديدة أو القاهرة .والآن "يعملوا أنفسهم يانحيت" على حد تعبير أحد معاصريهم . عن هؤلاء يقول سعيد الجناحي في تقديمه لكتاب جارالله عمر "القيمة التاريخية لمعارك حصار السبعين" الطبعة الأولى الصادرة عن دار الأمل عام 2003 " قامت حكومة 5 نوفمبر بحملة اعتقالات سياسية لصف واسع من القوى الثورية من عسكريين ومدنيين أغلبهم من أعضاء الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ( فرع الحركة سابقا) لرفضهم مكافأة من تركوا ميدان القتال أثناء حصار صنعاء وعادوا ليشكلوا مراكز قوى متنفذة إضافة إلى رفض الحزب المصالحة مع الملكيين".وبعض هؤلاء بدأ تورطهعم في الفساد بعد الثورة مباشرة عندما كنا نشاهد في تعز أثاثا كان من محتويات قصر العرضي ( قصر الإمام أحمد) في غرفة مسئول تدريب الحرس الوطني القادمين من عدن ومن أبناء محافظة تعز الرافد البشري الكبير مع محافظة إب للمدافعين عن الثورة. هؤلاء الفارون لم يكن يرق لهم ماكان الفريق حسن العمري يبديه من إعجاب بشجاعة النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب رئيس الأركان وبكفاءته القيادية وهو أحد الأبطال المنسيين في الذاكرة الوطنية الذي لم يكتب شارع أو مدرسة أو حي سكني بإسمه وهو نفس الحال مع الشهيد جارالله عمر. هل لأننا ناكرون للفضل أم لتغلب التيار الماضوي الذي استطاع في غفلة من الزمن تسمية عشرات المدارس بأسماء غير يمنية لايعلم طلابها عن هذه ا لأسماء شيئا بعد قضائهم سنوات طويلة في فصولها.هؤلاء النفر كان يسوؤهم قول العمري كلما شاهد الكدم في جيب عبد الرقيب ، "زوجوه بصنعانية ليتذوق طعم السلتة الصنعانية على يديها". هذه القلة يصفها أحد الفاعلين في الحصار بأنها تصنعنت صنعنة قذرة لأنها كانت تنظرللمقاومة الشعبية من زاوية غير وطنية ،وعندما تغلبت تجاهلت دور المقاومة الشعبية وهو أمر لم يحدث في أي بلد من البلدان التي قاومت حصارا أو احتلالا، ففرنسا تذكر دور الحزب الشيوعي في مقاومة النازية ولاتسقطه من تاريخها لأنها تؤمن بأن التاريخ ليس عملية انتقائية. كما لم يعجب هؤلاء دور قوات المظلات ودورها في الدفاع عن الجمهورية وحاولوا بذر الضغينة في النفوس وفي نفس الفريق العمري بالذات عن طريق الإشاعات والأخبار الملفقة كقولهم بأن القوارح سمعت مساء أمس بين الأثل في شعوب بسبب مطاردة أفراد من قوات المظلات للبنات هناك أو أن حمود ناجي وعبد الرقيب عبد الوهاب يوزعان أسلحة على أتباعهما وفي رأي أحد المعاصرين فقد تم لهم ماأرادوا بالطائفية التي كانت مقدمة لأحداث 23 و24 اغسطس 1968. و طبقا لمحمد عبد السلام منصور فقد تولت حركة القوميين العرب تشكيل لجنة ثلاثية من صنعاءوتعزوالحديدة تشرف على تجنيد الطلبة والشباب. وهؤلاء المدنيون كم يقول أحمد مهيوب الصبري وشايف الحسيني من طلبة مدرسة الثورة بتعز هم الذين حلوا محل العسكريين في تعز ومكنوا هؤلاء من الانتقال إلى صنعاء للدفاع عن الجمهورية وهزيمة الحصار وينفي الإثنان ما أشيع بأن المقاومة في تعز بدأت تضايق المشايخ وتحاول إضعاف نفوذهم الذي لم يكن كبيرا كما هو عليه الحال اليوم. قرار إعدام جار الله : كان جار الله بشهادة زملائه من أبرز الطلبة ثقافة وحبا للقراءة على عكس أغلبية زملائه الذين كان اهتمامهم عسكريا ورياضيا وقد قادته ثقافته إلى الاهتمام بالسياسة وكان مع محمد عبدالسلام منصور من الذين انضموا إلى الحركة مع أحمد عبدالله الأنسي وهتفوا قبل هذا الانضمام لجمال عبد الناصر في مظاهرات المدرسة العلمية قبل الثورة ولكن من المفارقات أن من هتفوا باسم جمال عبد الناصر كانوا مطلوبين للمحاكمة وللإعدام من قبل مسئول المخابرات المصرية بصنعاء العميد قنديل بتهمة الحزبية التي لم تصل عقوبتها حد الإعدام وفقا للقرار الجمهوري الصادر في مايو 1963 الذي حرم الحزبية . وقد وجد ما يثبت وجود قرار كهذا في بيت العقيد محمد الأهنومي وزير الداخلية الذي هجم عليه المتظاهرون أثناء مظاهرات 3 اكتوبر عام 1967. التحول إلى اليسار : تاريخيا سبق الشمال الجنوب في التحول إلى اليسار. وقد بدأ النقاش في أوساط بعض قيادات حركة القوميين العرب في الشمال للتحول إلى اليسار وتبني الفكر الماركسي في نهاية عام 1966 وكان من المتحمسين للتحول مالك الإرياني وعبدالله الأشطل ويحي عبد الرحمن الإرياني ومحمد القربي ومحمد الفضلي وكان من المتحفظين عبد الحافظ قايد أكثر العناصر القيادية في الحركة ثقافة وفهما للماركسية وعبد القادر سعيد وهزاع الشرجبي وعلي الأنسي. وقد فوجئ جار الله ورفاقه العسكريون بهذا التطور وحاولوا إجهاضه، ولهذا الغرض اجتمعوا في منزل بحارة معمر في صنعاء القديمة، معبرين عن ثورتهم ضد التفكير بالتحول إلى اليسار وكانت حجتهم أنهم التحقوا بحركة قومية عربية تتبنى الفكر القومي وهددوا بتشكيل تنظيم خاص بهم يسير على النهج القومي ولم يتراجعوا عن تنفيذ التهديد إلا عندماقيل لهم بأن تشكيل تنظيم عسكري بحت يعني أنهم يريدون إنشاء تنظيم عسكري انقلابي وأن هذا سلاح ذو حدين وأن العمل الإنقلابي ليس من خطط الحركة. ومع استمرار الحوارات وتوفر كتب الفكر الاشتراكي لانت المواقف وبدأت كفة الراغبين بالتحول تأخذ في الرجحان . ومن الكتب التي قرئت أصول الفلسفة الماركسية ومؤلفات لينين وكتب إلياس مرقص وكتاب الرئيس الصيني ليوتشاو تشي (كيف تكون مناضلا جيدا) وعنوانه الأصلي (كيف تكون شيوعيا جيدا) اتهم ليوتشاوتشي بالرجعية والتحريفية وطرد من منصبه إبان الثورة الثقافية الصينية وأهين من قبل شبابها. وفي ظل هذا المخاض كان جارالله مخلصا لحزبه وبدأ مع غيره من العسكريين يبدون بعض الفهم للتحول نحو اليسار خاصة أن نفس التفكير كان يجول بخاطر المركز في بيروت وفي المنطقة العربية كلها . و كانت هناك أقلية متطرفة أبرزها مالك الإرياني وعلي مهدي الشنواح وناصر السعيد وعبد الكريم عبد الوارث تريد تسمية الحزب الجديد بالحزب الشيوعي اليمني . وقد كان من مؤيدي التحول إلى اليسار بدون هذه التسمية عبد الله الأشطل ، أحمد منصور أبو أصبع ، أحمد قاسم دماج ، عبد الرقيب الحربي ، أحمد علي السلامي ، سلطان أحمد عمر ، جارالله عمر ، أحمد الحربي، والجراش وعلي سيف مقبل ويحي عبد الرحمن الإرياني وغيرهم وكان هؤلاء مع عبد الرقيب الحربي وسعيد الجناحي وجارالله عمر ومالك الإرياني وعبد الرحمن سعيد وعبد الحافظ قايد وعبد القادر سعيدومحمد الفضلي وآخرين ممن حضروا المؤتمر التأسيسي للحزب الجديد في قرية الحارات في الأعبوس بالحجرية محافظة تعز في منزل عبد الرحمن محمد عمر العبسي إبن عم سلطان أحمد عمر الذي لم يكن حاضرا في ذلك المؤتمر. تم التوافق على إعلان حزب جديد سمي الحزب الديمقراطي الثوري اليمني بمنهج فكري جديد هو الماركسية كدليل نظري وتم إقناع مالك الإرياني وصحبه بأن تسمية الحزب الشيوعي غير مناسبة لظروف اليمن الثقافية والفكرية ولعمق التخلف فيه وعدم وجود طبقة عاملة حاضنة لحزب كهذا.قبل الكل هذا التحول ومما ساعد على هذا القبول الجماعي الحوارات التي سبقت اجتماع قرية الحارات ولم يعترض سوى عبد الرحمن سعيد الذي استقال بدون ضجة تذكر. هذا الانتقال إلى اليسار كان محل سخرية اليساريين القدامى في اليمن سواء كانوا في الشبيبة أو مستقلين وقد استغربوا التحول الجماعي نحو اليسار وعدم وجود انشقاق وربما خشوا أن بتقدمهم الحزب الجديد ويأخذ مكانتهم كحزب يساري على المستويين العربي والدولي .وفي الحزب الجديد صعد جارالله إلى عضوية اللجنة المركزية. ومن المفارقات أن أحداث اغسطس حدثت بعد ولادة الحزب الجديد بأسابيع قليلة ولايستبعد أنها كانت تهدف لتصفية الحزب بعد بلائه البلاء الحسن في حرب السبعين، بدءاً بعناصره العسكرية التي كانت تسيطر على أهم فرقتين عسكريتين في ذلك الوقت وهما الصاعقة والمظلات. وكانت نتيجة أحداث اغسطس اعتقال عدد من العسكريين والمدنيين من بينهم جارالله وإيداعهم سجن القلعة وتسفير عدد من العسكريين إلى الجزائر . ومن المفاجأت أنه اكتشف في سجن القلعة أن مالك الإرياني الذي كان الأكثر مناداة بتسمية الحزب الجديد بالحزب الشيوعي كان الأقل فهما للنظرية الماركسية ، وكانت نتيجة هذا القصور الفكري أن وقع مالك تحت تأثير الروائي محمد عبد الولي ( الكلّيس) من قادة منظمة الشبيبة ولم ير مالك في محمد عبد الولي مصدرا للمعرفة ولكنه وقع تحت تأثيره التنظيمي وبدأ يحث زملاءه في سجن القلعة على الانضمام إلى الشبيبة وهو مادفع بعبد الحافظ قايد وجارالله ومحمد عبد السلام منصور وغيرهم إلى إصدار قرار بفصله من الحزب الديمقراطي . وبعد الخروج من السجن قضى مالك سنوات قليلة في منظمة الشبيبة التي حملت إسما جديدا هو حزب العمال والفلاحين وعندما حانت رغبة أحمد سيف حيدر وآخرين للتخلص منه عقد الحزب مؤتمرا تقرر فيه التخلص من مالك وتغيير إسمه إلى حزب العمل. ولم يجد مالك ملاذا سياسيا آمنا سوى في عشه القديم الحزب الديمقراطي الثوري . سأستكمل المقال في حلقة ثانية. * هذا المقال يعتمد على روايات من الذاكرة لشخصيات عاصرت ورافقت جارالله وهي وكاتب المقال لايدعون بأن ما جاء فيه هو الحقائق والوقائع كاملة .