علينا الاعتراف بالحقيقة أن الوحدة اليمنية انتهت في الوجدان الجمعي الجنوبي بعد أن خربها، إلى النخاع، الذين يتباكون عليها اليوم، خاصة أنها قد تشوهت في العقول وانتُزعت من القلوب، باعتبار الوحدة حالة معنوية وتقبلاً نفسياً لدى الإنسان قبل أن تكون وضعاً مادياً أو حساباً مترياً على الأرض، وحتى لا نكون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل خوفاً من مواجهة الواقع.. وما يوجد الآن من شكل بلا جوهر من الوحدة هو ما تضلل به وسائل إعلام مراكز القوى التي تستخدم الإعلام في التلاعب بالرأي العام، فعندما تتعمد هذه القوى من خلال وسائل إعلامها طرح أفكار وتوجهات تتناقض مع الحقائق الموجودة في الواقع فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول، ذلك أن الأفكار التي ترمي إلى خلق معان زائفة وإلى إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ليست سوى أفكار مضللة مثل هذا الإعلام صنعته مراكز القوى القبلية والدينية في دولة الوحدة، وحاليا يصنعه الإسلام السياسي كمركز رئيسياً مسيطر على الوضع السياسي. من أجل الوحدة تجاه المجتمع الآخر (الجنوبي) الذي يطالب بحقه الإنساني والسياسي والقانوني لاستعادة دولته كحق لتقرير مصيره. وبدلا من الاعتراف بالأخطار المرتكبة بحق الجنوبيين نرى القوى المهيمنة التي تسيطر على النظام في حكومة الوفاق تعمل على تضليل الجماهير خلافا لأبعاد القضية الجنوبية والاحتيال عليها لتحويلها من قضية سياسية وقانونية إلى قضية مطلبية وحقوقية، بما يعني زيادة في خطورة المآل وصعوبة الحل، ويرتبط ذلك باستخدام الحيلة بدلا من استخدام الحلول الناضجة، ولأن النجاح في حل أية مشكلة يرتبط أساسا بالاعتراف بالمشكلة ومواجهة الواقع على ضوء الحقيقة، لكن الحيلة غالبا ما ترتبط بالأفعال الشريرة حين تستخدم على نطاق واسع في تضليل الشعوب وتدجينها وإخضاعها للاستبداد وإسكاتها عن مقاومة الظلم والفساد، كما يسمي الفيلسوف الألماني شيللر هذا النوع التضليلي للإعلام (بالوعي المعلب)، والذي يقوم على عدد من الأساطير منها: أسطورة الفردية والاختيار الشخصي، إذ أن الحديث عن الحقوق المطلقة للفرد والحرية التي لا حدود لها، وإمكانية فصل الإنسان عن محيطه الاجتماعي، ما هو إلا محض وهم كبير، وأيضا أسطورة الحياد: حيث تقدم الرسالة الإعلامية في ثوب الاستقامة والموضوعية الشكلية، لتخفي التضليل الايديولوجي الكامن في مضمونها والمصالح التجارية الخاصة بالمضمرة في بنيتها. لكن النتيجة تبدو غير ذات جدوى تجاه قضية كبرى مثل القضية الجنوبية لأنها جميعا حيل خادعة تعبر عن نوع المقاومة الماكرة، وحتى لو أثمرت الحيل نجاحاً وتمكناً، فإن نتائجها قد تتحقق بعد زمن طويل وجهد بالغ بشيء نسبي، وهي وإن كان من الممكن أن تشكل تمهيداً لأشكال المواجهة الصريحة والمباشرة فإنها قد تعيق ميلاد مثل هذه الأشكال، حين لا يدرك الذين يستخدمون التضليل الإعلامي أنها مجرد مرحلة تلتقط فيها الأنفاس، ولو حاولوا تحويل الأنظار عن هذه القضية الحساسة كقضية شعب وتتعلق بوجوده وكرامته ورد اعتباره في الحياة، فيما هي أشبه بنار تحت الرماد، لابد أن تصل بخطى الشعب السلمية إلى مواجهة سافرة للحصول على الحقوق المهضومة ورفع الظلم المتراكم والكشف عن حق الإنسان في إثبات وجوده وتثبيت أقدامه. قد يأخذ التضليل الإعلامي ضد القضية الجنوبية أشكالاً متعددة في مظهره، ترمي جميعها إلى محاولة تمييع هذه القضية أو دفنها والأكثر فاعلية منها يظهر مشتملا قيم واسم الوحدة تحت الغطاء الديني ليبدو أكثر قابلية واختراق لعقول الناس خاصة في المجتمع الشمالي التي صورت الوحدة لديه بأنها طوطم لا بد من عبادته والتضحية من أجله، أو هي وثن يعبد لأنها أساس جلب الخير والشر للبشر، فيما يصل التضليل إلى المجتمع الجنوبي بصفة مغايرة (عدا اختراق الأفراد أو غير ذي وزن) يظهر القدسية الزائفة للوحدة عند الجنوبيين بأنها شيطان يعارض ويدمر حياة الإنسان. لذلك فإن المسخ والانحراف الذي أضفى على هذه الوحدة في الذهن هي الصورة التي رسمها الأشرار على أرض الواقع، وهي الشكل الهلامي المتميع في النظرة الجنوبية الذي يعيد تشكيل الصورة المرفوضة لأصحاب المصالح عند أغلب -إن لم يكن- جميع الجنوبيين، صورة مشكلة بمسوح دينية نمطها أصحاب المصالح من دعاة الدين ومن المتسلطين. لقد تحولت الصورة في الذهنية الجنوبية إلى اتجاهات نفسية تنظم العمليات الدافعية والانفعالية والإداركية والمعرفية حول طبيعة الموقف من الوحدة ويتمثل بالرفض الأفكاري لأي تعريف او توظيف أو تجميل أو تضخيم لها، فكلما بالغوا بهذا التضخيم للوحدة عند الجنوبيين كلما انعكس الرفض في سلوك الفرد وفي أقواله وأفعاله وتفاعله مع الآخرين، والذي يشكل في النهاية رأيا عاما جنوبيا يتمثل بأشكال مختلفة من الرفض للعلاقة القائمة بين الشمال والجنوب بعد حرب 1994م، فأحيانا يظهر الرفض من خلال التعبير اللفظي الذي يطلقه الجنوبيون على كل سلوك مرفوض مجتمعيا لديهم كما هي كلمة (دحبشة أو إطلاق كلمة الدحباشي) كرمز ممقوت في التعبير النفسي عن الآخر أو على الأقل غير المستحب، وأحيانا يظهر هذا الرفض عمليا من خلال الاحتجاجات والمسيرات التي برزت على شكل حراك اجتماعي سلمي منظم بدأت بوادره منذ تسعينيات القرن الماضي، حينها عندما لم تجد الاهتمام بها فاستمرأت الجهات السلطوية والوجاهات الاجتماعية والقبلية في نظرتها الاستعلائية للموقف الجماهيري الجنوبي وإلى الوقت القريب لم تنل الاهتمام المطلوب، بعد أن خرج الحراك السلمي الجنوبي إلى مدى يصعب العودة معه إلى المربع القديم، رغم بقاء الدعايا والتضليل للإعلام السلطوي في ذلك المربع، وفي حالات يرسم هذا الإعلام النمطية والصورة التي تزيد الرفض الجنوبي، ويبدو هذا خللا عند راسمي السياسة الإعلامية الرسمية بالإضافة إلى سياسة إعلام مراكز القوى في المجتمع كإعلام تضليلي استنفد شروطه وفقد قدرته على التأثير باسم الوحدة، باعتبار هؤلاء يضعون السياسة الإعلامية على ضوء فهمهم لسيكولوجية المجتمع الشمالي، والذي تتعاطى معه بمزيد من التعبئة والتحريض وبالتالي التجييش ضد الآخر (المجتمع الجنوبي)، ظنا منها بأنه الحماية والوقاية تجاه الرفض الجنوبي بعد أن وضعت صورة الوحدة في هالة القداسة والتعظيم، لترسم الحل؛ لأي رفض أو اعتراض على الممارسة والسلوك الوحدوي مهما كان مخلا، بأنه يأتي عبر القوة وفرض شعريتها على الحق الإنساني ومن خلال ذلك التضليل فإنه ما زال يؤتي أكله في المجتمع الشمالي ويخترق الوعي الجماهيري فيه ليشكل رأياً عاماً شعبياً، وللتأكيد على ذلك هو استمرار الفتاوى التكفيرية ضد من يخالف الوحدة، والانسحاب منها مهما كانت شرعيته إذ يعتبر ذلك نداء للموت أو دعوة إلى النار.. وبدلاً من أن تعالج الجهات الرسمية والرموز القبلية الوضع الوحدوي المختل لجأت إلى إعلامها لزيادة التضليل وتكريس شعارات معينة في مقاومة أصحاب الحق الجنوبي وكرست اسم الانفصال لتزيد المقت بين طرفي المجتمع الشمالي والجنوب ليتحول إلى كراهية مجتمعية بسبب هذه الكلمة نفسها (الانفصال)، كون المعالجة تنطلق أساسا ليس من أجل الوحدة بل من أجل المصالح الشخصية والأنانية والخوف عليها أكثر من الخوف على الوحدة نفسها. إن أسوأ ما في هذا التضليل الإعلامي أن القائمين عليه يروجون أن الجنوبيين وحدويون في الأصل وأكثر وحدوية من الشماليين، مستغلين بذلك الموروث الثقافي الجنوبي في الموقف من الوحدة قبل قيامها، لكن بعد الأخطاء التي ارتكبها أصحاب المصالح والنفعيون باسمها، هو الذي فضح ذلك التضليل، والأكثر سوءاً في هذا التضليل أن الثورة في صنعاء قامت تحت شعار قلع واجتثاث الفساد وإزاحة النظام السابق الذي أفسد كل شيء، والذي تسبب في تدمير الوحدة. معتمداً على توظيف إعلامي ديني، لكن في الحقيقة نجد هؤلاء أنهم هم الاعداء الحقيقيون للوحدة مع غيرهم من رموز النظام السابق، وزيادة على ذلك كانوا هم أصحاب الفكر التكفيري، كما كانوا بالأمس، واليوم هم الذين يخترقون بالجاه والمال والإعلام أفراداً بعدد الأصابع لينصبوهم كشاهدي زور؛ لينضموا إلى صفهم باسم الحراك الجنوبي كي يصرحوا باسمه بالبهتان والزور.. وهذا الاختراق الإعلامي وصل إلى أفراد جنوبيين أيضا، ومن صنفهم منشغلون بالأعمال التجارية والمال داخل اليمن وخارجه، بعد أن أغروهم بأنهم سيتقاسمون معهم ثروات اليمن بين مشائخ الشمال ورجال أعمال الجنوب ليكون حِكراً تمثيليا بين الطرفين مع منحهم امتيازاً في السيطرة السياسية وتربعاً على الحكم، خاصة بعد مشاركة مثل هؤلاء الجنوبيين في مؤتمر الحوار الجاري. ولا نعلم كيف يفكر ساسة الإعلام المضلل أن من لا تلفحه حرارة الشمس يوماً من الأيام في الحراك السياسي الجنوبي في الساحات والميادين، ولم يكلف نفسه عناء التنقل والمشاركة وقطع المسافات الطوال، ولم يقدم من طعامه إلى إخوانه المحتاجين ولم يتبرع من ما يملك أو ما لديه للجرحى والمعتقلين ولم يواجه القمع والسجن والتنكيل والرصاص بأن يصبح بين عشية وضحاها قائدا لهذه الجماهير أو معبراً عن إراداتها أو متحدثاً باسمها؟، مثل هؤلاء لم ينحصر طموحهم على هذا التوجه، بل زادوا تبعية لإعلام التضليل الذي يأكل الثوم بأفواههم لكي يسيئوا إلى القيادة الشرعية للجماهير الجنوبية، مع أن الجماهير التي تشعل النضال في الساحات بنفسها تعرف تلقائياً من هم أصحاب القيم والمبادئ، ومن هم المخلصين لقضيتها تجاه الداخل والخارج. فليكف مثل هؤلاء عن إساءاتهم للشعب عند الإساءة لقيادته. دون ذلك فليفعلوا ما يشاؤون، وليقولوا ما يريدون، فالمطلب واحد، والهدف واحد، والعبرة في النهاية عندما تقول الجماهير كلمة الفصل. والله على ما نقول وكيل