ليست كل الثورات تحدث تغيرات جذرية للأفضل، ولا كل التغيير التدريجي ينعدم فيه الوصول إلى الأفضل، ولا إصلاح بدون تجذير، ولا تجذير بدون مبرر ثوري، ولا مبرر ثوري بدون إصلاح. والتطور الاقتصادي والحضاري عامل محفز لقيام الثورات التحررية والسياسية، ولكنه ليس شرطا وحيدا للتحولات الديمقراطية. والثورات تتلاقح وتتشارك الإسناد والتدعيم المعنوي الثوري بينهما أو عند قيامها،ولكن ذلك لم يعد شرطا ضروريا لانتشارها على مساحة جغرافية واحدة.. حدثت هبات ثورية في أكثر من بلد في العالم لوحدها ولم تنتشر في باقي بلدان القارة نفسها. فقد تحولت بريطانيا نحو الملكية الدستورية(البرلمانية) لوحدها في أواخر القرن 17، ولم يحدث ذلك في بقية البلدان الاوروبية، وجاءت بعدها بقرن من الزمن الثورة الأمريكية في أمريكا الشمالية لوحدها أيضا، وفي أوروبا وبعد الثورة الأمريكية بعقد من الزمن قامت الثورة الفرنسية. فلا الثورة الفرنسية شملت كل الدول الأوروبية، ولا الثورة الأمريكية شملت كل الدول في القارة الأمريكية، وفي عقد السبعينيات من القرن الماضي حصلت تحولات ديمقراطية عن طريق التغيير التدريجي في بعض بلدان أوروبا الجنوبية (اسبانيا والبرتغال واليونان) دون أن تشمل الدول في أوروبا الشرقية تماما كما هو الانتقال الديمقراطي الذي حصل في البرازيل ولم يشمل دول أمريكا اللاتينية. لكن حدثت الثورات التحررية في أمريكا اللاتينية في مساحات متقاربة خلال منتصف القرن التاسع عشر، وأيضا حصلت الثورات التحررية من الاستعمار تقريبا في كل البلدان العربية خلال ثلاثة عقود من الزمن، أي من الخمسينيات إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي.ولم تكن كلها على خيار سياسي واحد، بل تنوعت بين الاشتراكي واليساري والرأسمالي، إلا أن التوجه القومي الذي تحول إلى ديكتاتوري كان شبه ثابت في طبيعة الثورات العربية، وهذا يؤكد أن خيار التحرر غالبا ما يرتبط بين الدول بعوامل الدين واللغة والتاريخ وهي عوامل دفع ثورية في ثورات الشعوب، وعوامل تلاقح وتوسع وانتشار على الرقعة الجغرافية المتقاربة أو المتجاورة كما هي الثورات العربية التحررية في النصف الثاني من القرن الماضي، وكما هي الثورات الربيعية خلال الثلاثة الأعوام الماضية. لكن لكل عصر خصائصه وظروفه في قيام الثورات، وثورات العصر الحالي تأخذ الطابع السلمي بحكم تطور الحقوق الإنسانية، رغم أن الثورات في عصرنا الحاضر عندما تحدث وتتحول إلى العنف تكون أكثر دموية نتيجة لحداثة التقنية القتالية والتطور في وسائل وطرق الحروب الحديثة. إن الثورات في العصر الحديث تتفاوت بين السلمية وبين المسلحة لكنها تختلف في النتيجة أو في التوجه نحو الديمقراطية التي تعارف عليها العالم بأنها الحالة المثالية للنهج السياسي للاقتراب من العدالة في المجتمعات، فالديمقراطية في الوطن العربي لازالت في حالتها الجنينية وتعيش بعض دوله خارج الديمقراطية.أما التي تدعي أنها تعيش تجربة ديمقراطية فهذا يعتمد على خصوصيات الدولة وبنيتها السياسية وطبيعة الحكم فيها، إلا أن بلداننا العربية رغم ما تعانيه من الحكم المطلق وغياب المشاركة السياسية، وافتقاد الحريات الفردية والجماعية فإنها ليست ديمقراطية بل ما يوجد عمليا مجرد طموح سياسي للسعي نحو الديمقراطية. ولذا فإن معظم البلدان العربية(باستثناء الدول النفطية)تعاني من مشاكل البطالة والفقر وسوء المعيشة، وغياب التنمية المتوازنة، وضعف الخدمات الضرورية، وتراجع مستوى التعليم والخدمات الصحية. فالمواطن العربي بشكل عام لديه شعور منغص في النفس من الدونية التي تخالجه تجاه السلطة وتجاه الطبقات الطفيلية، من الغبن الناجم عن انعدام المساواة إزاء القانون، وإزاء موارد الدولة، وانعدام العدالة في تقسيم الثروة الوطنية، وهو الأمر الذي ضاعف الشعور بالغضب والذي خلق روح التمرد من أجل الخلاص من هذا الواقع. هناك تقارير كثيرة تتعرض للواقع العربي قبل وبعد قيام الثورات تشير إلى أن الفساد هو السبب في عدم الاستقرار في المنطقة. فقد ذكر تقرير قدمه الأمين العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد في مؤتمر المنظمة الحادي عشر في الاردن علم2010م ذكر فيه اجمالا مجموع إيرادات الدول العربية خلال نصف قرن إلى العام 2000م تقدر ببلايين الدولارات، أنفق ثلث منها على التسلح والثلث الآخر على مشاريع تنموية وبنى تحتية، والثلث الأخير فقد ذهب بشكل غير مباشر أي على الفساد.إذن ضعف بناء الدولة هو سبب رئيسي في وجود الفساد..أما في اليمن فحدث ولا حرج، فلدينا نظام سياسي من أسوء الانظمة وأفسدها في العالم،هذا النظام احتال على الثورة ويحكم اليوم باسمها وباسم التغيير ويدعي أنه ينفذ رغبة وإرادة الجماهير وهو قد حول الثورة مبررا لتقاسم المنافع الذاتية بين أصحاب النفوذ والجاه والمال. النظام السياسي في اليمن يدير أمور البلاد والعباد بطرق ما قبل التقليدية، يقيم المدارس والمستشفيات ويبني الطرق ويمد شبكات الكهرباء والهاتف والمياه ويجبي الضرائب، وهناك محاكم وسجون وأجهزة أمن وجيش لكنها جميعا مؤسسات تمارس وتحمي الفساد، جميع هذه الاجهزة والمسميات تدار بواسطة نظام متهالك تاريخيا لكن توجد فيه شبكات اخطبوطية جذورها عميقة وراسخة في الأرض وعبرها يمارس الفساد، لأن كل موقع أو حلقة مفصلية في هيكل الدولة منشد إلى مركز الهرم الأعلى المؤسس للفساد، هذه الأجهزة ونظامها الإداري ونسقها السياسي باتت متقادمة أو مستهلكة أو فاقدة لأهليتها في الحكم والإدارة على الصعيدين الداخلي والخارجي،لأنها تأسست أصلا من أجل الابتزاز والنصب والسيطرة المادية قبل السياسية فكانت النتيجة انهيار سياسي واقتصادي وحتى أخلاقي رغم أن المجتمع الدولي والإقليمي يدعم بشدة إعادة تماسك هذا النمط البنيوي المختل خوفا من الوصول إلى نتيجة مجهولة تؤثر على المنطقة بشكل عام. على الصعيد الداخلي فقد أخفق النظام اليمني في مجال التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنولوجي، ليس بالمقارنة مع الدول المتقدمة بل بالقياس إلى أفقر دولة في الركن الافريقي مثل جيبوتي أو الصومال، ونقول في يومياتنا:ان الكهرباء لم تنطفئ في الصومال كما هو الحال في اليمن ولا كذالك المياه التي لم تعد متوفرة في الخدمة الحكومية، وكذلك الصحة والنظافة والبيئة وغيرها. ومع ذلك أسوأ نموذج شعاراتي ديني أو عقائدي في مسمى وحدة الأمة أو العربي القومي أو الوطني كان يمثله اليمن، فهو الذي يتحدث عن طموح فوق قدرته وأعلى من واقعه. فقد تبجح وتطاول على شعار الوحدة وتطبيقها في الواقع، فدمر ما كان فيها من مقومات الوحدة، وأعاد الشمال والجنوب إلى وضعيهما السابقين، بل إن النظام السياسي المتداعي والفاسد الذي تبنى مشروع الوحدة ومحاولة تطبيقها قد مزق عرى ما كان من مقومات لهذه الوحدة ونتيجة للتطاول اللامسؤول من المدعين بالوحدة، فتحولت إلى وحدة جمع للأموال والثروات والمصالح إلى الجيوب النتنة، ويا ليتها ستقف عند حدود الشمال والجنوب كما كانت أو كما هي طبيعتها التاريخية والجغرافية السياسية بل إن أصحاب هذه الجيوب الوسخة لازالوا في حالة من التوسع تحت شعار الوحدة، والوحدة قد تحولت إلى نتف وأشلاء متناثرة في النفوس وهي النتيجة المحتملة تباعا على الأرض من وراء إصرار أصحاب الجيوب النهمة، ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وهما الثلة الواحدة القديمة المهترئة التي لا يمكن أن تزاح إلا إذا دمرت الواقع كله من الأرض والإنسان وأهلكت الحرث والنسل. هذا النظام اليمني المليء بالأدران والأوساخ هو الذي يحكم ويزيد في جرجرتنا وراء مصالحه إلى الهاوية، بعد أن فشل في عدم تحقيق أبسط المؤشرات الإيجابية في بناء الدولة في مجال الاقتصاد أو السياسة أو الأمن. هذا النظام القديم الجديد لم ينجح في أبرز مشروع سماه بالوحدة لأن أرضيتها لم تكن قوية وثابتة، ونفوس وعقول هؤلاء المتسلطين لم تصل بعد إلى مستوى هذا الحدث. لقد أخفق هذا النظام في تحقيق الإجماعات والإندماجات الوطنية التي تعلي من شأن الانتماءات الوطنية على الانتماءات القبلية والإثنية والطائفية والمذهبية والجهوية وأكثر من هذا الأسرية والعشائرية. إن هذا النظام تغول في سلطته على الدولة فهمشت المؤسسات ووظائفها بحيث لم يعد منها سوى الأجهزة البيروقراطية العتيقة والأمنية المبتزة لحقوق الناس. وهاتان المؤسستان لا تعملان إلا في مكانة قانونية واحدة إزاء كل المواطنين، من لم يخضع للجباية فقد خسر أمام مقاومة الدولة ومن كانت شوكته فوق سلطة الدولة فقد كان شريكا في السلطة والمصالح، هذا النظام شجع ووسع من تغول القبيلة ورعونتها وتماديها واستهتارها بنظام مؤسسات وأجهزة الدولة ونظمها الإدارية، فداست على قوانينها وتشريعاتها، وهذا النظام مد المشايخ والوجهاء والأعيان بسلطان الفعل والقوة، ومنحهم سلطة فوق سلطات الدولة لأنهم أدوات النظام وملجئه عند النوائب، لا هم لهم إلا اقتسام الثروات الوطنية وتقسيم المصالح الحكومية وتوزيع حصص الإيرادات والدخل والعوائد المحلية بين تلك الجيوب المنتفخة والمتسخة. هذا النظام المليء بالأورام والعقد النفسية يجازي الشعب بالاحتيال والقمع والحرمان. يتفنن في السياسة وإدارة شؤون الحكم بعد أن عجز عن حل القضية الجنوبية، يحتال في كل مجال وبعد هذا العجز احتال باختيار رئيس جنوبي لا يقدم ولا يؤخر ولا يستطيع إيجاد حل لهذه القضية،ومع ذلك يختار ثلة من الجنوبيين المتماهين مع النظام للتعايش مع النظام..إذا كان الرئيس هادي لم يقدم من أجل الجنوب وقضيته مثقال ذرة أثناء نيابته مع أكبر مدمر للوحدة (الرئيس السابق) خلال عقدين من الزمن، فكيف يستطيع أن يقدم اليوم شيئا وعيون النظام ترقب كل حركة أو سكون لديه. صحيح بأنهم سمحوا له بأبينة الدولة ببعض القادة في هذا النظام ولم يسمحوا له برد مظالم الجنوب، ولن يسمحوا له بحل قضية الجنوب، ولن تحل قضية هي شأن نفس-اجتماعي وسياسي وثقافي عند الشعب الجنوبي، بينما الوحدة هي قناعة نفسية ورضا اجتماعي وإنساني، وهي سلوك وممارسة وتعايش ومواطنة متساوية وغير ذلك فإن هذا النظام يعاند نواميس الطبيعة ويقف ضد إرادة الخالق في خلقه وضد مبدأ الحياة وقانون التعايش الإنساني. صالح محمد مسعد(أبوأمجد) 2014/3/15م