غرق الطلبة في البحر، فقدّم رئيس الجامعة لأهاليهم واجب العزاء.. ياللإنسانية الرفيعة! أما كيف غرقوا، فأصدق الروايات أنهم كانوا يؤدّون "محاضرة عملية" في البحر الأحمر! بحسب موقع المؤتمر نت. طبعاً ستتساءل عزيزي القارئ عن كيف يؤدي الطلبة محاضرة عملية في"أعالي البحار"، وما هي هذه المحاضرة العملية؟ وبدورنا لن نستطيع أن نمدّك بالإجابة، كما لن يكون لائقاً أن نحيلك على فيلم " قراصنة الكاريبي" مثلاً، لتكتشف بنفسك ما إذا كان البحر يعطي "الطالب" دروساً عملية بغية الحصول على البكالوريوس، أم أنه مشغل تدريب للقراصنة! لا نعرف على وجه اليقين تحت أي من العناوين التالية كانت المحاضرة: كيف تتعلم الغرق في خمس دقائق – كيف تغرق لتحصل على شهادة البكالوريوس- تدريبات عملية في الغرق الجماعي- الارتقاء بمهارات الغرق الفردي نحو غرق جماعي مستدام! لم تكن هذه هي القصة. في الواقع لقد كان الحادث مجرّد مجلّى، علامة، من مجلّات حياة الجامعة المريضة، جامعة الحديدة؛ وأرجو أن لا يفتح أحدٌّ شدقيه ليقول لي: أنت تنتهك حرمة جامعة عريقة. لأنني لستُ أنا في الواقع من كتب في تقرير جهاز الرقابة والمحاسبة، قبل الأخير: فقدان 42 مليون ريال من ميزانية الجامعة، اكتشف الجهاز أنها صرفت في شراء حرّاثة وبوكلين " لأغراض بحثية في الجامعة". أصبح واضحاً، على نحو مبكّر، أن أداء الحصص العملية تحت الطوفان، كما حدث للمفقودين من طلبة مستوى ثاني تربية بدنية، لا يتفوّق في مأساويته وهمجيته عن لطش 42 مليون ريال لشراء بوكلين " لغرض البحث العلمي". منذ ثلاثة أعوام وأنا أبحث بكل السبل المتاحة أمامي لأجل خلق علاقة، ولو واهية، بين البوكلين والبحث العلمي .. وفرغتُ ، متأخّراً، إلى هذا الاستنتاج: ثمّة مشروع علمي سرّي تتبناه جامعة الحديدة، يصبو إلى العثور على بيضة الديناصور في تهامة، باستخدام الحرّاثة والبوكلين! كنتُ مضطراً إلى طرح إجابة تحل أمامي لغز تواطؤ الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، كما هي عادته، مع هكذا جريمة اختلاس جليلة تحدث في "وسط أكاديمي وتعليمي"! تاريخ جامعة الحديدة في الفساد هو تاريخ استثنائي في تاريخ الجنس البشري. تأتي الاستثنائية من نوعية عمليات الفساد، لا من حجمها. فمثلاً، يستطيع "عيال الحلال" الحصول على توجيه من رئيس الجمهورية دُغري بتحويلات مالية ضخمة، مضافاً إليه الاستحواذ على مناقصات تصل إلى 20 مليون ريال، لأجل تأثيث مستشفى جامعة الحديدة التعليمي. ليكتشف الجهاز المركزي أن هذا المستشفى لا وجود له بالمطلق العريض. في الحقيقة، لا توجد كلية للطب في جامعة الحُديدة، ومع ذلك تواجد المستشفى التعليمي بقدرة قادر. وكما أن طلبة التربية البدنية يأخذون الحصص العملية في البحر الأحمر، بحسب فلسفة جامعة الحديدة، فمن المتوقع – بمنتهى البساطة – أن تطالب قيادة الجامعة بمستشفى تعليمي، عمّال على ستين بطّال، دون أثر لكلية الطب. ويجدون، ويا للنعيم المقيم، من يجاريهم في هذه الفانتازيا المهولة حتى آخر ريال. ومالُه، من جيب أبوهم يعني! يقول بعض الظرفاء إن ناهبي المال العام في الحديدة يعملون في علانية تامة بسبب اعتقادهم أنهم في منأى عن الحساب. فهم يظنّون أن " اللي بينزل من صنعاء ما بيعرفش يطلع مرة ثانية. يعني الدنيا برد وبوارق وغمام و"دحَص" وكلاب وأروان ومشوار طويل ومافيش مطاعم في الطريق، وهذي تهامة، الداخل مفقود والخارج مولود. وابعد عن الشر وغنّي له". ليس في هذا ما يثير الضحك، فعلى حد علمي لا يوجد تفسير آخر يمكن الاعتماد عليه في فهم غض النظر الدائم عن "استعراضات" الفساد والاستعباد في محافظة الحديدة، من الشيوخ إلى الجامعة، مروراً بكل التفاصيل! الآن .. غرق الطلبة الفقراء أبناء الفقراء. غرقوا، وماتوا. وبعد موتِهم قررت الجامعة أن تسميهم: شهداء الواجب! نعم، لقد كان ذهابهم إلى البحر الأحمر، في غمرة المدّ، هو الواجب. أليست هذه هي أوامر البهوات أعضاء هيئة التدريس؟ لقد علّموهم أن إطاعة أمر البيه هو عين الواجب، ومن مات في سبيل "البيه" فهو شهيد؟ هل تتذكرون شهداء الاستاد الرياضي في إب؟ لقد نالوا الشهادة في مهمّة شبيهة، يختلط فيها الفساد مع الاستهتار مع الاستبداد مع احتقار أرواح الناس، مع ... إلخ! تخيلوا معي ماذا لو أن الجامعة لم تفطن إلى هذا التصرف "الإلهي" بالغ الكرم، أعني منح وسام الشهادة للموتى، فلربما ضلّ هؤلاء المساكين طريقهم إلى الجنّة. الحمدلله، إذن، فقد حدث اللائق على أتم وجه: قررت الجامعة اعتبارهم شهداء، كما أعربت عن نيتها مخاطبة وزارة الخدمة المدنية لإدراجهم ضمن كشوفات الموظفين. ياللمهابة، أشعر بارتجاف في أصابعي، فهأنذا بصدد الحديث عن شهيد يعمل موظّفاً. هكذا بهذا الامتهان يجري التعامل مع أرواح الناس. طوبى للشهداء. منذ ثلاثة أسابيع اخترقت قبيلة همدان حصون العاصمة وحاصرت جامعة صنعاء بسيارات "عسكرية". تطوّر الأمر فالتقاهم رئيس الجمهورية. ثم تحسّنت الطقوس أبعد من ذلك، فنقل القاتل إلى النيابة خلال ساعات من الحادث. لم يجرؤ رئيس جامعة صنعاء على أن يفعل مثل فعلة رئيس جامعة الحديدة، أعني: منح القتيل درجة شهيد، ومخاطبة وزارة الخدمة المدنية لأجل ضم اسمه في كشوفات الموظّفين. ولعلّ السبب يعود إلى وعي القيادتين، في الجامعتين، بأحجام الضحيتين. علينا أن لا نغمض أعيننا ونحن نرى سكّان الجبل ينظرون إلى الضحية الساحلي بوصفه "نصف ضحية" قياساً على الريال الحديدي. المقولة العرفية، في هذا الصدد، تقول: اللي تعرف ديته اقتله. أتصور أنه من غير المناسب، بحسابات الإتيكيت، أن أشير إلى أن أيّ من قيادتي جامعتي صنعاء والحديدة لم تقدم أدنى مشاركة علمية أو ثقافية طيلة حياتها. لعلّك ساذجٌ مثلي، لذا فقد تبادر إلى القول: إن هذا هو المؤهل الأساسي للديمومة في هكذا منصب. تذكّر أني سألكزك بكوعي وبوعي: احترم نفسك يا غلام، نحنُ في حضرة أسيادي وأسيادك. هؤلاء الأسياد الأثرياء الذين بمجرّد مغادرتهم لمطار صنعاء فإنهم ينكمشون بصورة عجيبة، لطالما اعتبرها أصدقائي الأشقياء دليلاً كافياً على وجود الله! أعضاء هيئة التدريس في جامعة الحديدة يتسبّبون في غرق عشرين طالباً من 54 طالباً، توفي منهم ثمانية. يعني أغرقوا نصف الدفعة تقريباً، منهم لله! أما في جامعة صنعاء فإن الحرس الجامعي يقتل الطلبة على بوّابة الجامعة. وفي جامعة تعز تنعكس الصورة بمصادفة لا تقبل التكرار فيتمكّن طالبٌ "ابن ناس" من روح عسكري مسلّح كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. أعني: منكر أن تقول لزميلتك: صباح الفل. ما أيسر الموت في اليمن، إذ لا يبدو أن هناك ما هو أيسر منه سوى الفقر. منذ ثلاثة أعوام، قال رئيس الجمهورية في خطاب ما قبل موافقته على ترشيح حزبه له في الانتخابات: لن أكون مثل الإمام الذي قتل إخوته. هذه علامة ضعف. وأنا أحب أن أذكّر سيادته أن الإمام قبل أن يقتل إخوته فإنه منعهم من قتل شعبه. كما أن الإمام نفسه احتز رأس سيافه لأنه قتل فقيراً في المدينة. أرجو منك يا سيادة الرئيس أن تنظر إلى هذه الحادثة، إغراق طلبة جامعة في البحر، بصورة مختلفة. واسمح لي أن أذكّرك سيدي الرئيس بأن السيدة الكويتية معصومة المبارك استقالت من منصبها كوزيرة للصحة، منذ أقل من عامين، بسبب حريق شبّ في مستشفى وأدى إلى مقتل شخصين. لا نزال نتذكرها بكامل الامتنان والتقدير. وقياساً عليها، وعشماً في مبادرة صارمة من سيادتك، فنحن نرجوك يا سيدي الرئيس.. أخبر أصدقاءك، أو من يتوهّمون أنهم كذلك، أنه لن يكون بمقدورهم أن يجمعوا علينا بين الموت وخراب الديار إلى ما لانهاية. أبلغهم هذا الأمر بالأفعال. أنت تقدر، وكثيرون من مواطنيك، من محبيك وشانئيك، يقولون أنك أيضاً تُريد أن توقف كل هذه المهازل والبلطجات إلى غير رجعة.. وبغض النظر عمّا يمكن أن يقوله وزير التعليم العالي في مؤتمره الصحفي المزمع، فنحن في انتظار تدخلك العلاجي العاجل. فإن السيل لم يبلغ الزبى، كما يقول المتفائلون، بل إن البحر دخل إلى الجامعة! أرجوك، نرجوك، ترجوك، يرجوك، يرجوانك، يرجونك، ترجونك، يا فخامة الرئيس.. بكل الضمائر المعلنة والمستترة. إحنا تعبنا، وزهقنا.. زهقنا جدااااااااااااااااااا.