في اليمن، إما أن تكون السريحي أو العرشي أو أن تكون صالح. هكذا أثبتت دورة النخب على دمويتها طوال العقود الماضية في البلد المتهم زوراً بالسعادة. هناك في صنعاء معطوف عليها موروث عدن، لا يُزفّ كرسي الرئاسة إلا لميت أو لمنسحب أو لصاحب يد حديدية وراقص بين الألغام قبل الثعابين. فالرئيس اليمني بين عامي 1974 و1977 إبراهيم بن محمد الحمدي السريحي، شكل من خلال اغتياله مع شقيقه عبدالله، قائد قوات «العمالقة» ذائعة الصيت، تجربة الرحيل الأولى بالقتل التي شهدها رأس القيادة في صنعاء. بينما كان عبد الكريم عبد الله العرشي أحد أبرز الرؤساء الراحلين من سدة الرئاسة من دون حمام دم بين الحلفاء. اذ لم يبقَ في القصر سوى بضعة شهور عقب توليه السلطة في إثر اغتيال رئيس آخر هو أحمد الغشمي. أما علي عبدالله صالح فقد جاء بديلاً قوياً لرؤساء خمسة مروا على اليمن منذ الثورة على حكم الإمامة الزيدية المتوكلية، والتي تحوّلت حرباً أهلية بامتياز بين عامي 1962 و 1970. الرئيس السابق والمشير علي عبدالله صالح جمع ظواهر الدورة الرئاسية اليمنية التاريخية الثلاث بطريقة أو بأخرى. فالرجل شكّل النموذج الوحيد للزعيم القوي والقادر على تدوير الزوايا واستثمار التناقضات. عرف مكامن القرار في التركيبة القبلية لمناطق الشمال والوسط، فأمسك بزمام المبادرة في كل مناسبة اقترب فيها من حافية الهاوية، وأيقن بعد صراعاته مع اليمنالجنوبي ثم الوحدة ثم حرب العام 1994 أن الطريق الى عدن لا يمكن أن يبقى معبّداً إلا بأيدٍ جنوبية، وإن فتحته في بادئ الأمر دبابات «الشمال». وإلى جانب حسن إدارة «صراعات البقاء في السلطة»، فقد طالت الرجل وصفة الموت الرئاسي التي عاد منها منهكاً. فقد كانت محاولة اغتياله في أعقاب «ثورة الشباب» أشبه بالقتل السياسي المؤجَّل، حيث لم تكن الجمعة الشهيرة تلك يوماً مخصصاً لما سماه أنصار صالح «الأمن والأمان». إذ طالت زعيمهم يد الاغتيال غير «الموفقة» في مسجد النهدين في الثالث من تموز 2011. ومنها بدأ التأسيس لدخول الزعيم اليمني في التصنيف الثالث من دورة الرؤساء. فكان آخر زعماء اليمن الراحلين وهم على قيدٍ غير قيدِ الموت. صالح لم يمت. ربما لم يكن بإمكانه الصراخ بشكل درامي أمام العالم معلناً تأجيل ساعته إلى حين غير معلوم. إلا أنه استعاض عن القول بالفعل، وأظهر للقريب والبعيد أن حالة السبات التي ظهر عليها خلال الأعوام الثلاثة التالية لعملية النهدين، كانت ضرورة أساسية من أجل دراسة رد الفعل بمقتضى المتغيّرات، بما فيها من أوزان جديدة تفرض تحالفات جديدة. وهي قراءة مغايرة بالأسلوب والشكل عما اعتاد عليه طوال سنوات حكمه. فكان العام 2015، مضافاً إليه الربع الأخير من العام الماضي، البدايةَ الجديدة لصالح في ما تبقى من حياته السياسية والعسكرية، وإن بأرضية وعناصر قديمتين. فالأوراق المبعثرة التي سقط عليها بفعل موجة الصدم المصاحبة لقنبلة الاغتيال ثم اهتزازات زلزال «المبادرة الخليجية»، جعلت منه شخصية أكثر استعداداً للعودة الى الميول الأصلية في البناء السياسي اليمني. فكان حمائياً بامتياز، وراديكالياً بشكل لم يعهده من قبل. هكذا امتطى صهوة الحدث المنطلق من صعدة الى عدن مروراً بصنعاء، للعودة إلى الجذور والتقرب أكثر من تناقضات الأرض، بمعزل عن رفاهية الرقص على رؤوس الثعابين التي تغنّى بها طوال عقود حكمه المليئة بالصراعات والحروب. أدرك الرئيس علي عبدلله صالح ما لم تدركه السعودية وحلفاؤها في الخليج العربي من المنخرطين في المعترك اليمني. فهو الزعيم الذي «امتهن» إدارة اليمن، وعرف مَواطن الخلل على كثرتها، برغم فشله في تغطية الثغرات في الكثير منها، بل ربما تسبّبه بالعديد من المآسي، خاصة سلسلة الأخطاء التاريخية في التعاطي مع «القضية الجنوبية»، وبالتحديد منذ انتهاء حرب الزعيم الجنوبي علي سالم البيض الانفصالية العام 1994. فصالح بالأساس كان دوماً الرجل الممسك بالشارع والجبل والصحراء، فيما كان للمنخرطين من الخارج قراءة مختلفة تماماً، قوامها «فوقي» بامتياز، حيث يعتمد بناء القرار، كما كان واضحاً في عملية «عاصفة الحزم»، على حساب الفارق الكبير في القوة النارية والقدرة الاقتصادية وطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية. شهد صالح منذ «ثورة الشباب» مرحلة لا يمكن لأمثاله من القادة أن يعتادوها أو حتى أن يتوقعوها. فبرغم وصوله للسلطة من رحم الصراعات والانقلابات والثورات والاغتيالات، إلا أن فترة الهدوء الطويلة التي عاشها بشكل نسبي في صنعاء، ساهمت في خلق منطقة عازلة بين القائد المتربص لأعداء الصف الواحد، والقائد الراكن لهدوء المسيرة السياسية. ما أوجد سردية مختلفة في مخيلته عما يدور عادة في أذهان القادة في «طور الصعود»، وباتت قيادات يمنية تقليدية من مشايخ آل الأحمر وجنرال الحرب علي محسن والزعيم القبلي الشيخ أمين عاطف وقبائل تعز ومأرب وغيرها، تحصيلاً حاصلاً في تقييمه الدوري لسلة الحلفاء والخصوم. وقد ساهمت حروبه الستة مع الحوثيين في ترسيخ هذه القناعة لما أظهرته شخصيات كعلي محسن من «إقدام» على استخدام العنف في المعارك، «كلّلها» بتوجيه الأوامر مباشرة للعميد اليمنيالجنوبي ثابت جواس بإعدام الزعيم الحوثي التاريخي حسين بدر الدين، الأخ الأكبر لزعيم «أنصار الله» الحالي عبدالملك الحوثي. وهذه مراحل وأحداث ساهمت في تكريس وعي صالح لعناصر قوة ثبت بطلانها بالتجربة العملانية وعدم صلاحيتها في حمايته سياسياً واجتماعياً وحتى أمنياً. عندما انضم آل الأحمر الى السلفيين و «الإصلاحيين» في الحراك الشعبي بداية «ربيع اليمن»، وعندما وصل التخلي عما اعتبره الجميع الضحية الاولى ل «الربيع» المزعوم ذاك، حدّ المناداة بقتل علي عبدالله صالح، وهو ما كاد أن يحصل، أطلق الرجل جردة حساب استمرت أعواماً، وظهرت نتائجها منذ دخول الحوثيين إلى صنعاء في أيلول من العام الماضي. فبمعزل عن مخرجات الحوار و «المبادرة الخليجية» وكل شعارات مرحلة ما بعد صالح، كان الرجل قد أعدّ عدة الأرض قبل مجالس تخزين القات، لاستحضار الحوثيين الى قلب المعترك اليمني، معتمداً على قوة الدفع الهائلة التي يحركها طموح «أنصار الله» في أخذ حصة تليق بحجمهم العسكري والاجتماعي في يمن عبدربه منصور هادي، ورغبة رعاتهم الإقليميين بتوجيه ضربة موجعة للسعودية، خاصة بعد اقتناع الرياض بأن الأمور قد هدأت، وبأن صنعاء أصبحت من ضمن العناصر «المريحة» في منظومة الأمن القومي الخاصة بها. قرأ صالح طموح صعدة، وأدرك وهن صنعاء، حيث تركت «المبادرة الخليجية» في قصرها رئيساً ضعيفاً بخلفية شعبية هشة. فكان منصور هادي ضيفاً ثقيلاً على «الشماليين»، ورئيساً مفروضاً على جنوب لطالما اعتبره خارجاً عليه وعلى مشروعه «الوطني»، منذ تحالفه مع صالح في وجه علي سالم البيض، وتوليه شخصياً تنفيذ قانون مشابه ل «اجتثاث البعث» في العراق، بحق «الجنوبيين» المنضوين تحت لواء جيش الجنوب السابق. ومن هذه القراءة، انطلق الرجل في عملية استثمار عناصر القوة المتبقية. فاستخدم ثقله كاملاً في لجم الجيش، ما أمكن، عن مقاومة السيطرة الحوثية على غالبية المناطق. وساهم في تسليمهم معسكرات كاملة وأسلحة حديثة، خاصة تلك التي حصل عليها من الأميركيين لحساب الحرس الجمهوري. فصالح، ومنذ الاشتباكات في منطقة أرحب ونهم بداية «ثورة الشباب»، والقتال العنيف في العاصمة صنعاء ضد المسلحين التابعين للشيخ صادق الأحمر، أطلق عملية سريعة استباقية لهيكلة الحرس الجمهوري بألويته ال17. وكان من أبرز صورها التضييق على ضباط وجنود مشكوك في ولائهم، حتى اضطروا لمغادرة المعسكرات، وتحوّلوا وقتها نجوماً على القنوات الخليجية باعتبارهم «منشقين» عن صالح. وقد أسهمت هذه العملية في تسهيل ابتلاع الحرس والمقربين في الجيش لمحاولات إعادة الهيكلة التي سعى لتطبيقها فيما بعد الرئيس عبد ربه منصور هادي فور توليه الحكم. ومع انطلاق عملية «عاصفة الحزم»، ساهم صالح في توجيه الجيش اليمني عبر سلسلة أوامر جديدة، وعقيدة قتالية أحياها من ذاكرة القوات المسلحة، تقوم بالأساس على الهوية اليمنية «الشمالية» بامتياز، فيما عمل على الأرض بالتوازي مع مجهود الحوثيين على لمّ شمل المكوّن الزيدي في مواجهة تغلغل السلفيين و «الإصلاح» في المحافظات الشمالية. وكان دوره واضحاً في تحقيق المصالحة بين حاشد و «أنصار الله» في شباط الماضي، في انقلاب واضح من أكبر قبائل اليمن على زعامتها التاريخية المكونة من آل الأحمر. وبهذا استكمل الأرضية اللازمة ل «صمود» الانقلاب الحوثي ومواجهتهم للحرب السعودية في تركيبة ثلاثية قائمة على تنسيق التحالف «الزيدي» واستثمار الأحلاف القبلية التاريخية، والحفاظ ما أمكن على بنية الجيش اليمني.