لا يشير هذا العنوان إلى الفراغ الذي تركه في د. عبد العزيز المقالح عالمنا غياب المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري فحسب، وإنما يشير كذلك إلى شهور رمضانية سابقة، تعودت فيها مع عدد من زملائي أن نخصص كتاباً من الكتب الفكرية والأدبية للقراءة في هذه المناسبات الكريمة، وندير حوله نقاشاً يطول أحياناً أو يقصر، وغالباً ما كانت كتب الدكتور الجابري تفوز بنصيب الأسد من هذا الاختيار، ذلك لمجموعة من الأسباب، منها أنه من المفكرين العرب القريبين إلى القلوب والعقول، وأنه يكتب بطريقة أقرب ما تكون إلى الحوار منها إلى الاسترسال والسرد، وأنه من بين الكتّاب القلائل الذين يجيدون ترتيب أفكارهم وشرحها بلغة مشرقة صافية، ولأن كتاباته - وهذا هو السبب الأهم - تسعى، حتى وهي تناقش الماضي إلى أن تشد القارئ إلى المستقبل، والنظر في ما ينبغي أن يكون عليه لتجاوز الحالة العربية، تلك التي تبدو كأن لا صلة لها بالماضي ولا بالمستقبل . لهذه الأسباب إذاً، كان الدكتور الجابري رفيقنا في أكثر الجلسات الرمضانية التي ندعوها بالمقيل، حتى وإن كان وقتها يمتد إلى ما بعد منتصف الليل . ولا أود أن نتوقف عند كتاب من الكتب التي قرأناها لهذا المفكر العربي الكبير، وكان لنا حولها نقاشات طويلة ووجهات نظر متقاربة، أو متضاربة، وما يعنيني هنا إثباته في هذه الزاوية المحدودة، هو الاعتراف بأن هذا الفكر الجليل كان صاحب مشروع فكري متكامل، وقليل هم المفكرون العرب الذين تحقق لهم في حياتهم مثل هذا المشروع . ولا يضيره أنه قد تعرض في حياته لانتقادات حادة وصل بعضها إلى درجة من الشطط والبعد عن الإنصاف، فقد كان واثقاً من أهمية جهده وسلامة اختياره، ولم يكن ينتظر الاعتراف بهذا الجهد من قبل منافسيه وخصومه، ولا حتى من تلاميذه والمعجبين به . ومن اقترب شخصياً من الدكتور الجابري يدرك مدى ثقته بنفسه، وإخلاصه في كل ما يطرحه من آراء ووجهات نظر قابلة للأخذ والرد، ومن صدر رحب، وتواضع مبهر، يجعلك وأنت تقف وجهاً لوجه في حضرة صاحب “تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي" وغيرها من الكتب العظيمة وأنك في حضرة إنسان ودود، بالغ التواضع، دائم الابتسام، كما يتبين لك أنه لم يغب عنه منذ بداية تأسيسه لمشروعه الفكري، أن يؤكد باستمرار على أهمية العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي العلاقة التي حاول البعض ولا يزالون يحاولون أن يجعلوا من كل منهما سلاحاً مشهراً في وجه الآخر . وما ترتب على هذا الانقسام من إهدار للطاقات وهدم لمقومات النهوض .
إننا نستقبل أول رمضان في غياب مفكر، لم يترك جهداً في استلهام التراث العربي ونقد سلبياته وإطالة الوقوف على إيجابياته، وفي التركيز على أهم مقومات الحاضر المكونة للارتقاء والنهوض، وفي طليعتها الحرية والديمقراطية . وهذا الغياب يجعلنا نشعر ونحن نقرأ أحدث مؤلفاته “مدخل إلى القرآن الكريم" . بمزيد من الألم والحزن اللذين يرعشان القلب والوجدان .