لا ريب أن (( الفدرلة )) التي تلهج بها ألسنة فريق من النخبة في اليمن ، متوهمة فيها الوصفة السحرية الناجعة لمعضلات البلد و مفتاح طلسم أزماتها ، هي (( فدرلة )) على النقيض كلياً لتلك التي تريدها (( كواليس الوصاية الأمريكية )) لليمن و يعكف (( خبراؤها )) بمنأى عن عيون المراقب المحلي ، على تنضيج الظروف و المناخات المواتية لإسقاطها على الواقع عملياً .. تمثل زيارة (( الحجوري المرجع الديني السياسي للوهابيين في اليمن و قائد مواجهات دماج العسكرية الفاشلة )) إلى تعز ، الأسبوع الفائت .. تمثِّل تمظهراً مادياً أولياً ل(( الفدرلة )) في منظار (( كواليس الوصاية )) على طريق سيرورتها العملية صوب التجلي التام كواقع (( لا مناص منه )) مستقبلاً وفق شهوة التفتيت و الهيمنة الأمريكية المقيتة .. دخل (( الحجوري )) تعز عامداً بصخب و جلبة و كرنفالية و مواكبية باذخة قوامها عشرات السيارات المكتظة بمسلحين متعددي الجنسيات ذوي شعور طويلة مرسلة و سحنات غليظة وغير ودية .. إنه – بطبيعة الحال - لا يزور المدينة بغرض إلقاء محاضرةٍ عن "وسوسات الشياطين" بل يعيد (( تعريف المدينة )) بالنقيض لما تعرفه هي عن نفسها ويعرفه (( الحالمون )) عنها .. و يتعين على تعز و الحال كذلك أن تتطهر كلياً من رجس كونها (( مشروعاً ورقياً عاثراً لعاصمة ثقافية لم تكنها بعد ، وحلم مواطنة بعيدة المنال )) و أن تخضر بوصفها عقاراً (( سنياً وهابياً )) جرى و يجري تجريفه رسمياً على مدى أعوام وعقود من كل جميل و إنساني وحضاري ، ليتموضع عليه كل هذا النشاز و القبح فتشرع المدينة له ذراعيها مهللة مكبرة و لا تنكره.. تماماً كما أشرعت (( يثرب )) ذراعيها ل(( محمد بن عبد الله )) حين قصدها فاراً بدعوته وأصحابه من عسف (( قريش))، ذات زمن سحيق...هكذا يتوقع(( الحجوري )) أو هكذا يجب بنظره أن تستقبله (( تعز )) ، مع ضيم التشبيه و المقارنة لحاله معها بحال (( محمد )) مع (( يثرب)) ... إن تعريف المدينة (( ككنتون سني نواة )) لإقليم يتألف من (( تعز و إب )) ، هو ما ترمي إليه و يلائم قوى النفوذ و السيطرة القائمة على أنقاض (( مشروع دولة المواطنة الحديثة )) و من ورائها (( كواليس الوصاية الأمريكية )) ... فوحده سيناريو كهذا في حال تحقق كفيل بتمكينها من لملمة نثار منظومة نفوذها المتشظية بفعل فقدانها المتسارع لناظم وجودها الأفقي المركزي متمثلاً في (( دولة الجباية الذراع التنفيذي لإقطاع سلطة قوى الظل المسيطرة )) و الذي يضفي على وجودها شرعية الاستمرار في استنزاف عافية البلد وتصفية خصومها على مذابح (( الجمهورية ، الوحدة ، الوفاق ، الثوابت الوطنية ، و الديمقراطية )) ... لقد ألحقت انتفاضات الشارع شمالاً وجنوباً وخلال محطات (( 2007 ، 2011 ، 2014 )) صدوعاً عميقة في الوجود الأفقي لسلطة (( قوى الظل المسيطرة )) ، وهي تحاول اليوم (( مسنودة بكواليس الوصاية الأمريكية )) إعادة الإنتشار و التموضع عمودياً عبر (( ثعبان الفدرالية ذي الرؤوس الست )) ، الذي لن يلتئم جسده كرافعة بديلة لوجود و مصالح هذه السلطة المهددة بالتهاوي الحتمي لرافعة دولة الجباية ، إلا بتمزيق النسيج الإجتماعي للبلد طائفياً ومناطقياً و عرقياً ، ومن ثم تعبئته في بضع كنتونات محتربة و معزولة و مختزلة في ذات قوى الإقطاع و النفوذ التقليدية العتيقة مطلَّةً في مسوح جديدة ! إن الإلحاح الفاضح و المثابر في إثبات (( سُنيَّة تعز و إب )) على سبيل المثال هو من حيث الدافع و النتيجة نفيٌ فاضحٌ ومثابر (( لمواطنتهما )) ، ونفيُ المواطنة كقاعدة ينبني عليها هرم الحقوق و الحريات الأصيلة و المكتسبة ، هو إثبات لمشروعية سلطة قوى الإقطاع و النفوذ القائمة عل نقض الحقوق و الحريات وتأبيد زنزنة المجتمع في خانة (( القنانة و التبعية القطيعية )) لها نظير فتات الأعلاف ... إن مظلة (( الأقلمة بإهدارالمواطنة كقيمة جوهرية ، لصالح أقبية طائفية و مناطقية و عرقية معتمة )) ، هي مظلة مشرعنة لبروز نشاط الأذرعة الإرهابية التكفيرية لسلطة قوى النفوذ ، إلى علن المسرح السياسي و مزاولة (( الترويع و الذبح )) بوصفه طقساً عقائدياً وحقاً سيادياً مكفولاً لا سلطة عليه لأي جهة كانت بما في ذلك الدولة ، إذ تغدو هذه الأخيرة تحت طائلة التماسات الطائفية المقدسة المفتوحة على تقدير سلطة المرجعيات المسيطرة لمركزها و تخومها ؛ كما أن هذه المرجعيات هي من تقرر ما يمكن اعتباره خرقاً لقداستها و تدخلاً غير مقبول في حرمها الطائفي ، عن سواه مما يدخل ضمن صلاحيات الدولة .. إن الدولة في هذه الحال تصبح كياناً مساوياً للطائفة (( بما هي مجموع قوى السيطرة الطبقية القديمة الجديدة )) ، بعد أن كانت أي الدولة وسيطاً رسمياً ناقلاً لمصالح (( الطائفة )) ومعبراً عنها .. وهكذا فإن (( قوى السيطرة )) لا تعود بحاجة لأن تتذرع بلافتات عامة و وطنية لتمرير مصالحها الخاصة و غير الوطنية ، فالوطني هنا يصبح هو الطائفي ، و حدود الوطن هي حدود الطائفة ، بانتفاء فكرة الوطن كفضاء تشاركي عام ، و انتفاء فكرة المواطنة كهوية جامعة و مؤسِّسة لوجود الفرد و الجماعة في صورة شعب .. إن إمكانية احتكام الشارع (( الشعب )) كطرف ، لسلطة قوى النفوذ كطرف آخر ، باتت أكثر فأكثر أمراً عصياً بالذرائع التجريدية الفارغة ذاتها من قبيل (( الجمهورية الوحدة ))، لاسيما عقب انتفاضتي 2007م جنوباً ، و 2011م شمالاً على وجه التحديد ، و لاستعادة هذا الاحتكام فإنه ينبغي في نظر هذه السلطة بوصفها وكيلة لمصالح الإمبريالية إعادة قولبة البنى الإجتماعية طائفياً و مناطقياً و عرقياً بصورة تفقدها القدرة على الاحتشاد في سياقات ثورية أو مطلبيه حقوقية عامة .. لقد عمدت السلطة على هذا المصاف إلى نقض مشروع (( فيدرالية من إقليمين في حدود تماسات ما قبل 1990م الواضحة )) بمشروع (( فدرالية من ستة أقاليم )) غامضة الملامح و ملتبسة الأبعاد .. و أياً كانت تحفظاتنا على سياسة المعالجة ب(( الفدرلة )) ، فإن خيار (( الأقاليم الستة )) الذي فرضته السلطة على غالبية فعاليات ((مؤتمر الحوار )) بمراوغة لئيمة و شراء ذمم ، يكشف جهوزية هذه السلطة للمقامرة بالبلد و الشعب و التاريخ و الجغرافيا على شفرة أفدح السيناريوهات كارثية ، في سبيل رأب تناقضاتها البنيوية العميقة و افتقارها الشديد لشرعية المضي في اختطاف مصائر و مقدرات التراب و البشر .. إن اقتتالاً مناطقياً جنوبياً جنوبياً ، هو الضامن في اعتقادها لاستمرار (( الوحدة )) و درء شبح (( الانفصال )) ، و بالمثل فإن اقتتالاً طائفياً مناطقياً شمالياً شمالياً ، هو الضامن لاستمرار (( الجمهورية )) و درء شبح (( الإمامة )) ... غير أن (( الوحدة الجمهورية )) ليستا ولم تكونا تعنيان طيلة العقود الفائتة إلا هذه (( السلطة ذاتها )) ، و استمرار هذه الأخيرة استمرار لها حد إعتقاد قوى السيطرة و النخب الذائدة عنها بمروحة من المسوِّغات باهتة وشتى ... لقد بدا على مدار الثلاثة أعوام الفائتة أن البلد تهرول بوتيرة مثابرة صوب هذا المآل الكارثي المرسوم ، و أن السلطة تنجح في إدارة دفة الدمار الشامل بكفاءة ... لكن وفي خضم ذلك تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، و تفيق (( كواليس الوصاية )) على هدير بركان أكثر زخماً.. أكثر دفقاً و أصلب عوداً .. بركان توافرت له عناصر النقاء الثوري و طليعية القيادة و نضج الظرف الموضوعي ، التي تضافرت لتجعله من القوة بحيث يقلب طاولة الحسابات الكيدية رأساً على عقب .. و ينقل البلد إلى مسار مغاير لكل التكهنات ، و يضع المنطقة أمام معادلة جديدة انطلاقاً من شمال الشمال ؛ ... لا ريب أن تاريخاً جديداً يتخلق بانحناءة قوس هذا المنعطف النوعي من عمر اليمن و بانتظار ما سيتكشف عنه من معطيات فلنحبس أنفاس التحليل و المقاربة ...