تخطر ببالي الآن تشكيلة من الأفكار: مثل أن اليمن تعيش الآن حقبة شبيهة بالعقدين الأولين من القرن العشرين. كانت اليمن حينها جغرافيا ممزقة، وثمة خليط من القوى المتنافرة، محلية أو اقليمية أو دولية، تتقاسم السيادة عليها، دارت أحداث واضطرابات وحروب، كل ذلك كان يجري في خضم قلق عالمي حاد. شهدت تلك الحقبة إرهاصات الحرب العالمية الاولى ثم وقائع تلك الحرب ونتائجها. ولم تكن اليمن في معزل عما يدور في محيطها، كان في شمال الشمال رجل دين شاب يمرر مشروعه السياسي وطموحه الشخصي في السلطة تحت عباءة مقاومة الاتراك مستثمرا التذمر المحلي من الاختلال الذي طبع أداءات الجهاز الادراي التركي، وقع مع الاتراك اتفاقية دعان، وفيها يمنح الامام الحق في ممارسة سلطة دينية على المناطق الزيدية، وحق جباية الزكاة وتشكيل المحاكم الشرعية، مع اعترافه بسيادة رمزية للاستانة. في حين كانت قبضة الامبراطورية التركية مرتخية على الاجزاء المتبقية من شمال اليمن في عهدتها، كما كانت مرتخية في المناطق العربية التي كانت هي الأخرى مسرح لمقاومات مشابهة. وجنوب اليمن، كان عبارة عن جغرافيا تتأرجح بين التمدد والانكماش، يتوغل الاتراك على حساب البريطانيين فترة، ثم يترجعون، وفي فترة اخرى يختبر الامام يحيى حظوظة فيصل الى عمق مناطق الجنوب، وفي لحظة أخرى يتقهقر تحت ضربات الطيران. وفي شمال اليمن وضعت اتفاقية الطائف حدا لصراع الحدود بين الامام وآل سعود الذي خرج منه الإمام مهزوما، وفي غمرة النزاع ذاك ضاع الادريسي مع اراضيه. وجد الامام الذي بدد نصف عهده في حروب لتثبيت حكمه، وجد نفسه وجها لوجه مع الانجليز، يستمر الحال هكذا الى ان يحري الاتفاق على تقاسم لليمن مبني على نتائج ذلك الصراع الطويل، اتفاقية 1936، شطرت اليمن عمليا إلى شطرين، شمال اليمن اخضعه الامام يحيى بقوة السلاح، وورث جهاز الدولة والسلاح والخبرات من الامبراطورية التركية التي كتبت الحرب العالمية شهادة وفاتها، وهناك جنوب اليمن وفيه سلطة الانجليز، حيث انهمك هؤلاء في إعادة هندسة الجنوب وترتيبه وضبط الامن فيه ومساعدة السلاطين والامراء على فرض سلطاتهم وتوفير السلام وقمع المارقين، وقطاع الطرق، ولعب الضابطان البريطانيان هاملتون وانجرامز دورا تأسيسا فارقا في المحميتين الشرقية والغربية، ففي تلك الحقبة سادت الفوضى مناطق الجنوب المحاذية للشمال، واستشرت عمليات قطع الطرق والتناحر القبلي، والفوضى. ما أقصده هنا تحديدا هو أن اليمن الآن ومثلها بلدان اخرى في منطقة الشرق الاسط، تمر بلحظة تحول تاريخية تفوق الوصف. سميتها في مقال سابق "اليمن في طور البلد الخام"، ما قبل الدولة المركزية في الشمال والجنوب على حد سواء, هنالك سلطة في النزع الاخير، وقوى صاعدة عسكرية ومدنية ودينية وجهوية، تتأهب لوراثة اليمن الخام. على أن هذا التحول قد ينتهي اما بتصحيح القواعد المختلة التي قام عليها الاجتماع السياسي، أو ينتهي بالفشل في تأسيس وجود مشترك ودولة وطنية ذات مبادئ اجتماع ترضي كل المواطنين، والاستمرار لوقت طويل في حالة فراغ قوة. وعلى اية حال لن تكون نتيجة الفشل الصورة التي كانت عليها اليمن ابان حقبة ما قبل الدولة، ستكون صورة مختلفة تماما من الصعب تخيلها الآن، لان الاحداث العرضية تفعل فعلها في توجيه مسار التاريخ. أفكر ان القوى الدولية تبذل قصارى جهدها لانقاذ حياة الدولة اليمنية الواحدة، مع تشجيع اعادة هيكلتها وصياغتها جذريا، لكن اظن ان لديها الخطة ب، ففي حال تعثرت هذه المساعي، ستدعم سيناريو آخر، فيه خرائط جديدة وكيانات مستقلة يمكن ان يكتب لها الحياة وتحظى بالاستقرار، في حين تظل المناطق العصية على السيطرة، في حالتها الطبيعية، اللادولة، وتعزل عن النقاط الحساسة، أي حرمانها من امكانية تهديد الامن العالمي. اليمن ينتظرها هذا المصير، على غرار البلدان التي ظلت تاريخيا عرضة للتغيرات والاضافة والحذف، الاندماج والافتراق، بعكس تونس ومصر، فهما كيانان يتمتعان باستمرارية تاريخية عابرة للتحولات العظيمة التي يمر بها العالم بين حين وآخر.