حتى تصل الثورة إلى غايتها" قالها من على منصة الثورة وهو يرفع يده اليمنى على طريقة أبطال طروادة. كان الملايين يراقبونه ويشعرون بانقباض بطيء في أقفاصهم الصدرية. إذ لم يكن بمقدور أحد أن يجزم أن "صادق الأحمر" يستخدم التعريف نفسه للدولة والثورة والمدينة، ذلك الذي يستخدمه شباب الثورة، والرجال الفقراء في الميادين. امس الثلاثاء تحديداً أغلق مسلحون تابعون للشيخ صادق الأحمر صيدلية لشاب بن حلال، استثمر فيها دم قلبه. هذا مجرّد مثال ميكروسكوبي لمعنى "الثورة إلى غايتها" الذي يقصده صادق الأحمر. المكان: جوار حديقة برلين، صنعاء، العاصمة. عمق الثورة. الزمن: منتصف العام الثاني للثورة. الحدث: هذه الأرض تتبع صادق الأحمر. البقية تفاصيل مركبّة ودقيقة. أخطر ما فيها أن هذا الشاب، وكان للتو قد تزوج بزميلته الصيدلانية و"حطوا الفلس جنب الفلس وعملوا صيدلية زغيرة"، كان قد سهر ليالٍ طويلة يفكر في أمور كثيرة: جوهرية وشكلانية. اتفق مع عروسته أخيراً على شكل الديكور، لكن الرجال الحمر فجأة فعّصوا كل خيالاته، وأجبروه على أن يحزم كل شيء في كراتين.. من الديكور إلى الكراتين، ومن الصيدلية إلى غرفة فوق السطوح. صادق الأحمر يعرف كل شيء، بالتأكيد. ليس لأنه على اطلاع دقيق على كل شيء فهو يعيش الآن أحلام فترة النقاهة بعد أن توجته الثورة ملكاً. بل لأن رجاله يعرفون جيداً بماذا يفكر وكيف يفكر، يفهمون تعريفه للفضيلة والرذيلة فيشغلون تلك التعريفات على الأرض. قرأوا خريطة عقله ذات يوم وانطلقوا إلى الأبد. أعرف الشابين: الصيدلاني وعروسه الصيدلانية، أعرف أيضاً أني قلت لهما قبل قليل: معلش، بكرة توقفوا من جديد، وفي أعماقي أخشى أن يتأخر بكرة كثيراً. كان توماس فريدمان قبل ثلاثة أعوام يحتفي بمقولة لفيلسوف أميركي معاصر: إنني أدين بكل ما أنا عليه لأميركا، حيث ولدت، فوجدت الفرص اللانهائية للنجاح. وعلى ذلك فإن التزامي الأساسي هو أن أسلم أميركا إلى الجيل الجديد على الهيئة التي وجدتها عليها. أردت أن أقول لهما: مقلوب هذه الجملة العميقة هي بالضبط، وتماما، مأساتكما معاً، ولعنتنا التي لا تنفك.. حتى لو حدثت مصادفة واطلع صادق الأحمر على هذه القصة المجهرية فسيكون من المناسب أن أدون فيها: إن هذين العاشقين، التائهين، لن يتقدما بالتماس لديك لقد تركا لك أنقاض "تحويشة العمر" لكي تكتشف نفسك على نحو أعمق. وبالنسبة لنا، نحن خبز اليوم والليلة، فقد صفقنا لك يوماً ما ونحن نعلم جيداً أنك ستصبح وحيد القرن. وأننا عندما نختلف معك في الغد فلن يكون في حوزتنا سوى مسدسات الماء. وقبل أن تجف الخيام سنطالع تروسك وهي تأكل كل شيء ببط شديد كأنك القدر، يا شيخ صادق. وقد كان هذان العاشقان، يا صادق، ثائرين حتى التماسيح وكانت الثورة، بالنسبة لهما، الجسر الخشب الذي سيوصلهما إلى الصيدلية، لا أكثر. أتمنى منك، يا ابن الأحمر، أن تغمض عينيك لخمس دقائق. تخيل المسافة الضوئية بين من رقص في نهار الثورة كأنه على جسر خشب، وبين من خرج في نهار الثورة في مشهد "أكسيدوس" يصيب الطير بالذهول. تعلم ما هو الإكسيدوس؟ لا بأس، هو الخروج الكبير. في التوراة: خروج اليهود من مصر. كما لو كنّا في "ماتش عسكري". وبتلقائية طفولية وجدنا أننا نصفق للروم ضد الفرس. هكذا صفقنا لك، ليس أكثر. أما الآن فلم يعد في حوزتنا سوى ألم المتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك روم .. فعلى أي جانبيك تميلُ. كما يحدث دائماً، سقط الطغيان المنظم وبدأ عهد الطغيان العشوائي، زمن المد الهائج للطحالب الحمراء..كنا على وعي عميق بهذه المعادلات، لكننا كنا نراهن على جسم الثورة. الجسم الذي تولد بسرعة على صورة بهيموث، تنين أسطوري، لكنه ويا للخيبة تحول إلى أراجوز بسيف خشب.. وطبيعي أن تلتهمه الطحالب الآن. حتى وإن جرى التعبير عن الخديعة الكبرى باستخدام تلك اللغة الفائقة: حتى تصل الثورة إلى غايتها .. بالمناسبة، ترك لك الزوجان على باب الصيدلية، بعد أن أغلقاها وإلى الأبد هذه الجملة "لقد رأينا للتو غاية الثورة يا صادق".