من المعلوم أن الديمقراطية ليست فقط آليات بسيطة، بل هي بالإضافة إلى ذلك أخلاق وقيم تمكن من التجسيد الفعلي للاعتراف بالآخر والقبول به. فحينما نمزج بين الآليات والقيم فإننا نمكن من تحويل الاختلاف المجتمعي والصراع المدني الحاد إلى اختلاف سياسي، يضمن التعايش والاعتراف بين مختلف المكونات. إن المزج بين الآليات والقيم يضمن الحقوق الأساسية للفرد والجماعات، ويوسع مجال حقوق الإنسان ليشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويوسع مجال تأثير الفاعلين الأساسيين. نحن بحاجة في الوقت الراهن - إذا أردنا أن نؤسس للدولة المدنية - إلى تعزيز دور الفرد وجعله فاعلاً في العملية الديمقراطية وفي الفعل السياسي؛ فالبناء الديمقراطي بقدر ما يرتبط بالتنافس السياسي وانفتاحه على مجال المشاركة السياسية، بقدر ما يرتهن بعوامل مدنية ومجتمعية وسياسية وثقافية كذلك. ولست بحاجة للقول: إن الدولة المدنية تحتاج إلى مجموعة من العوامل أهمها: 1- التحرر من الأمية والجهل السياسي، بحيث يستطيع المواطن التمييز بين صدقية الخطاب والتضليل السياسي. 2- انتشار ثقافة العقلانية التي تمكن الفرد من اللجوء إلى استخدام العقل في مختلف علاقاته الاجتماعية، وفي الفعل السياسي الفردي والجماعي. 3- الاعتراف الإيجابي بمكانة الفرد وأهميته، سواء من قبل السلطة السياسية، أو من قبل ذوي الوضعيات العليا، وفي جميع المجالات القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ لأن ذلك كفيل بترسيخ المواطنة، ودولة الحق والقانون. ولا أجانب الحقيقة إذا قلت: إن الحياة الديمقراطية في اليمن قد اعترتها مجموعة من الاختلالات أهمها: أ – الإقصاء؛ إذ عرفت الحياة السياسية اليمنية إقصاء متعدد الأوجه والأبعاد، قائماً بشكل أساسي على عدم الاعتراف بالآخر، سواء تعلق الأمر بالإقصاء العام الذي مارسه المركز في علاقاته مع الهامش جغرافياً وبشرياً، والذي أفرز علاقات غير متوازنة بين مختلف المحافظات اليمنية، وتهميشاً للكثير منها، كما أدى ذلك إلى انفصال حاد بين النخب المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية، والجماهير، أو تعلق الأمر بالإقصاء السياسي الذي تبنته الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في علاقاتها بعضها ببعض. لقد أدت مختلف أوجه الإقصاء إلى جانب الموروثات التقليدية إلى انتشار ثقافة الإقصاء في مختلف العلاقات الاجتماعية في المجتمع اليمني، إقصاء يعرقل بصورة أو بأخرى الاعتراف الواعي والإيجابي الضروري لكل بناء ديمقراطي. ب – غياب الاستقلال المادي للأفراد، إذا كانت الديمقراطية تقوم أساساً على مبدأي الحرية والمساواة، فإن كلا المبدأين يتأثر بشكل جدي بالاكتفاء الاقتصادي للأفراد، الذي يؤسس للاستقلال والحرية في مختلف الأفعال السياسية، ولئن استحضرنا نسبة الفقراء في اليمن، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم فعالية السياسات الاجتماعية، وتراجع الخدمات العامة، وتآكل الطبقة المتوسطة، كل ذلك يجعل فئة مستعدة لاستغلال الفراغات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمجتمع اليمني يشهد انتشاراً مستمراً لتغييب العقل، لدى الكثير من الفئات المثقفة: الأطباء، المهندسين، القضاة، الأساتذة، الجامعيين علاقاتهم وسلوكهم الاجتماعي، إما نزولاً عند متطلبات التقية، وإما تمسكاً بقواعد اللعب على أكثر من حبل، وإما اقتناعاً بأهمية اللاعقلي في تحقيق منافع مالية واقتصادية وامتيازات اجتماعية. لقد ارتبطت الديمقراطية في نشأتها وتطورها بثورة فكرية وثقافية، قادت الإنسان في المجتمعات الغربية إلى تغيير نمط تفكيره، وتجاوز التفكير الظلامي. إن الديمقراطية مرهونة بالعنصر البشري بثقافته وسلوكياته وعلاقاته سواء على مستوى الوعي بها وبأهميتها، أو على مستوى الممارسات المنضبطة والداعمة لها، ونحن نقف الآن أمام تساؤل مشروع عن مدى جوهرية وفاعلية الشعارات المرفوعة من قبل القوى التقليدية، وعن آفاق الانتماء السياسي في ظل مشايخ وجنرالات يستخفون بقيمة كل نظام وقانون ولا يلتزمون بما يطرحونه لا سلوكاً ولا أخلاقاً. ومما لاشك فيه أن الأزمة التي عصفت بالبلاد قد أدت إلى انتشار ثقافة الاستخفاف بالمصلحة العامة، وضعف الإحساس بهيبة الدولة والذهاب نحو تحقيق المصالح الشخصية، فالإنسان اليمني أصبح يستغل كل علاقاته مع الدولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع المادية، حتى وإن اقتضى الأمر التنازل عن كل القيم والمبادئ. إن الأزمة التي عصفت باليمن قد أعادت المجتمع خطوات إلى الوراء، وأصبح اللجوء إلى العنف يضع المجتمع برمته على حافة هاوية التفكك والانقسام الداخلي، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن الصراع والتنافس بين القبائل سيزداد، وكل قبيلة ستبحث عن حصتها من الغنيمة، وستسعى لانتزاعها ولو بالقوة، وفي هذه الحالة سيزداد الولاء للنظام القبلي، ويزداد نفوذ المشايخ على حساب القوى النهضوية والتحديثية وتتراجع الديمقراطية!.