أتاحت الثورة التونسية لوسائل الإعلام هامشًا واسعًا للتعبير الحرّ، لكن وفي خضم نضالات الصحافيين التونسيين من أجل سنّ قوانين تحوّل ما قدمته لهم الثورة الى مكاسب على الأرض، برزت ظواهر الشتم والطعن في شخصيات تتقلد مناصب هامة، سواء عبر مقالات تنشر في الصحف اليومية، او عبر برامج تلفزية أعدّت للغرض. يتحدّث أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية سالم لبيض عن ظاهرة "الشتيمة السياسية" ل "إيلاف" ، ويقول: "ما نعيشه هو تحطم منظومة القيم أو جزء كبير منها خلال العقود الخمسة الماضية وهذه المسألة لم تكن تظهر في المجال السياسي ولكن في مجالات أخرى من خلال عنف لفظي في الشارع وفي الملاعب الرياضية، وقد توفرت لها الفرصة بعد الثورة في ظل الحرية المتوفرة، للظهور في المجال السياسي. ويضيف لبيض: "يقابل هذا العنف اللفظي عدم وجود ميثاق أخلاقي واضح في مجال الإنترنت و الميديا التقليدية، وهناك كذلك ردة الفعل على استقواء السياسيين بالمناصب ويكون ردّ الفعل عليهم بالسبّ والشتيمة وحتى بالنقد البناء في أحيان كثيرة، من ناحية أخرى فإن الدولة التي تلعب في الواقع صمام الأمان للعيش المشترك بين كافة المواطنين أجهزتها مترهّلة القضائية والرقابية وغيرها وبالتالي تمارس الشتيمة دون خشية من أي عقاب عند تطبيق القانون، كما أن هناك عنصرا آخر يتعلق بالفهم على أنّ التعدّي على السياسيين كمهتمين بالشأن العام الذين لا حول ولا قوة لهم للدفاع عن أنفسهم، وتبقى هذه المسألة أخلاقية بالأساس. من جانبها، تحدثت المحامية حنان ساسي عضو المجلس الوطني التأسيسي عن هذه الظاهرة في تصريح ل "إيلاف" :" خلال شهر رمضان بعض القنوات التلفزية أعدت برامج تسخر من المسؤولين و تحطّ من قيمتهم و تستهزئ بهم وهي في الواقع تحطّ من هيبة الدولة، و السبب يعود إلى أنّ هؤلاء فهموا الحرية خطأ، فالحرية تكون مسؤولة وإلا سوف تنقلب إلى فوضى. وأكدت حنان ساسي درجة بلوغ الفوضى: "وصلنا إلى حرية التحقير بعيدا عن حرية التعبير وهذا مخجل فعلا وتساءلت: "أن تحوّل انفلاتك و تجاوزك للقانون إلى سخرية من الغير فهذا غير مقبول، وبالتالي كيف يمكن أن نحوّل رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس الوطني التأسيسي وكذلك حركة النهضة إلى مسخرة يتندّر بها، فبرامج مثل "طرطوريات" و "اللوجيك السياسي" و "مهرّجو المغرب العربي" تحقّر هؤلاء فعلا وتحطّ من قدرهم و مستواهم. وقال عضو لجنة حماية الثورة طارق سليمان ل "إيلاف": "ما نلاحظه الآن هو نوع من التدنّي الأخلاقي المخجل للقنوات التلفزية التي تستهزئ برموزنا الوطنية، وبالتالي نطالب الحكومة بمنع هذه الأعمال فورا والتي تؤسس لخراب أخلاقي حيث صار الأطفال يتندّرون برئيس الجمهورية ويسخرون من باقي رموز البلاد وهذا غير مقبول".
دور الإعلام والثورة المضادة ويتحدث سالم لبيض عن الإنفلات الإعلامي ودوره في هذه المسألة:" بالطبع هناك دور ما للإعلام وبعض البرامج الإعلامية و التلفزية بالخصوص لا تعرف في الواقع حدودا وضوابط باسم حرية الإعلام، كما لا توجد توازنات القوة في الإعلام الذي لا يمثل جميع القوى السياسية في تونس بل قوى سياسية نافذة أو قوى توصلت إلى احتلال مواقع، فإذا كانت كل القوى السياسية من دون استثناء لها مواقعها في المشهد الإعلامي يمكن ساعتها الإحترام بالقوة و ليس بالرغبة مثلما نلاحظ الصراع الموجود بين قناتي نسمة والتونسية.
وحول إمكانية اعتبار هذا الإنفلات في إطار الثورة المضادة، قال الدكتور لبيض: " المفارقة أن يقع الخلط بين ارتدادات الثورة و استكمال مهامها بما يقع في الإعلام من أفعال قوى الثورة المضادة حيث تتم مهاجمتها ووضعها كلها في سلة واحدة وهذا خطأ تقوم به السلطة، فمثلا " القلابس" أو البرامج التلفزيونية في قناتي التونسية و نسمة على غرار" اللوجيك السياسي" و" les guignoles du maghreb" (قلابس المغرب العربي أو مهرّجو المغرب العربي) هي من أفعال قوى قديمة ولا يمكن أن تكون من أفعال قوى الثورة ولا تذهب إلى قوى الثورة الحقيقية في سيدي بوزيد أو غيره بهدف تحقيق المطالب ولكنه في الواقع هو صراع سياسي فوقي بين قوى تحكم وأخرى انهارت من الحكم. بينما تقول حنان ساسي: "الإعلام دوره أفضل و أكبر من ذلك بكثير وهو دور البناء والتوعية وأشارت إلى أنّنا "نعيش في مرحلة انتقالية ومن غير المقبول أن نهين الدولة والقائمين عليها مؤكدة أنّ" الحكومة مطالبة بوضع حدّ للتجاوزات حتى لا يستباح شرف السياسي و يحطّ من قدره ومكانته و تصبح هيبة الدولة في الميزان.
حرية التعبير عضو القيادة الوطنية لحزب العمال محمد مزام يرى أنه لا يجب النظر إلى هذه الظاهرة من قبيل التجاوز الذي يجب ردعه مؤكدا أنّ ذلك يدخل في إطار حرية التعبير. وأضاف محمد مزام في تصريح ل "إيلاف": "من حيث المبدأ فحرية التعبير هي حرية أساسية ومن الطبيعي أن تشمل توجيه سهام النقد الذي قد يكون لاذعا أحيانا" مؤكدا أنّ الفترة الحالية تشهد صراعا سياسيا بين عديد القوى السياسية على الساحة، وأقول إنه من المفسّر لأن تونس تخرج بعد عقود من الإستبداد و الإنغلاق الإعلامي ولا أقول من المنطقي أن تبلغ حرية التعبير أشكالا حادة تصل إلى حدّ الإنتقاد وحتى الإساءة ولكن علينا أن نقبل بذلك.
محمد مزام أشار إلى أنّ تجاوزات قد تحصل أحيانا و" نعتقد أن وضعية يكون فيها الإعلام حرا و نزيها رغم بعض التجاوزات هي وضعية أفضل بكثير من أن نشهد انغلاقا إعلاميا أو ضربا لحرية التعبير مشيرا إلى أنه" لا يمكن بدعوى التصدّي للإنفلاتات الإعلامية ضرب حرية الإعلام و التعبير. وقال رياض الجويني (مدرس): "البعض يتحدث عن قناتي التونسية ونسمة بالخصوص على أنهما أعدتا برامج لشتم السياسيين و لكني أرى أنه يجب النظر إلى ذلك على أساس حرية التعبير التي كانت مغيبة لعشرات السنين و يضيف:" قناة نسمة تبنّت نهجا تحريريا مناصرا للعلمانيين ومعاديا للإسلاميين وإن كنا نخالفها الرأي فعلينا أن نحترم توجهها ومن حق المشاهدين أن يقاطعوا أو ينتقدوا برامجها ولكن لا يمكن أن نحاسبها على هذا الإختيار والتوجه.
ميثاق شرف أخلاقي وأشار عالم الإجتماع سالم لبيض إلى أن عدم وجود ميثاق شرف أخلاقي حقيقي و منظومة قيمية وخاصة عدم وجود تدرّب على الديمقراطية واحترام التداول على السلطة يحوّل هذه الدفعة إلى نوع من الفعل العكسي. وتحدث عن دور الحكومة في هذه المسألة مبينا أنّها: "ليست من مهمات الحكومة و لا يجب أن تتدخل فيها بأي شكل من الأشكال مؤكدا أنها: "تدخل في إطار الصراع السياسي وفي إطار حرية الإعلام، و في مجتمع ديمقراطي، القضاء الحر والمستقل يجب أن يكون متنبّها لمثل هذه القضايا ويفتح الملفات ولا تفتحها الحكومة باعتبارها سلطة تنفيذية. بينما استنكرت حنان ساسي عدم قيام الحكومة بدورها: "لو أنّ الحكومة كان تدخلها ناجعا و مدروسا من البداية، وعاقبت كل من تجاوز حريته وأهان غيره من مسؤولين ورؤساء لكان حالنا اليوم أفضل بكثير مما نحن عليه الآن، لقد بلغ الأمر نشر كلمة ( طرطور ) في إحدى المجلات الفرنسية بالعربية وهي الكلمة التي قيلت في إحدى القنوات التلفزية لرئيس الجمهورية، إلى هذا الحدّ أصبحنا لا نقيم شأنا لرئيس الجمهورية، هل هذه هي الحرية، هذه ليست سوى فوضى وانفلات.
رأي القانون وتحدثت المحامية حنان ساسي عن رأي القانون في المتورطين في الشتائم:" في المجلة الجزائية هناك أحكام تتعلق بجرائم الثلب والشتم المرتكبة ضد الخواص و العقوبة تصل إلى ستة أشهر فما فوق وذلك مثلا على غرار (ساقط ) و ( طرطور) و غير هذه الصفات. وكانت دائرة الإتهام التابعة في محكمة الإستئناف في تونس العاصمة أصدرت مذكرة إيداع بالسجن ضد سامي الفهري، صاحب قناة التونسية، بسبب قضايا فساد تورطت فيها شركة "كاكتيس" ولكنه اعتبر إيداعه السجن" بسبب إنتاج برنامج اللوجيك السياسي الذي تبثه قناة التونسية. وقال الفهري إن برنامج "اللوجيك السياسي" الذي يعتمد الدمى "أزعج بعض أعضاء الحكومة" التي كانت وراء إيقافه مؤكدا "أن حرية التعبير السائدة اليوم في تونس هي حرية وهمية". ووصفت النقابة الوطنية للصحافيين في بيانها إدانة سامي الفهري ب"التدخل الحكومي الخطير في الشأن الإعلامي" و اعتبرت أنّ" التدخل الحكومي وتوظيف القضاء للضغط على الإعلام ومصادرة حريته، ضرب لحرية التعبير وانقلاب على أهداف الثورة".