في قريتنا, يتعامل أهلها بكلمتين متضادين الأولى " مُعنن " وتعني أن الشخص واثق من نفسه وصاحب موقف وصاحب قراره ومرفوع الرأس في كل شيء في تعامله مع الآخرين بل وحتى في مشيته واحترامه لنفسه, والكلمة الثانية " مُدَني " وفي مناطق أخرى " مُودَني " وفي خبان بمحافظة إب يسمونه " مدنقس " وفي تعز يسمونه " مُدهنِنْ " وفي بعض المحافظات الجنوبية يسمى " مُدَنن ", وهي عكس الكلمة الأولى وتعني أن الشخص مطأطئ الرأس وبإمكان أي جحش أن يمتطيه ويسيره كما يريد ويحوله إلى بغل ينفذ كل ما يطلب منه وليس معه إلا كلمة " حاضر "," تمام ". ومع اندلاع ثورة الشباب في بلادنا في فبراير العام الماضي تعالت الأصوات المطالبة بدولة مدنية إلى درجة أن أحد الأثوار والذي لم يكن بثائر أصلا ظهر ذات مرة في التلفزيون وهو يلعن أم الدولة ومن خلفها, وخلفه جيش من المسلحين السلميين بكل ما ثقل وزنه وزاد ثمنه من الرصاصة إلى الصاروخ المضاد للطائرات قائلا " الحل هو إسقاط النظام وإيجاد دولة مدنية وبدون ذلك لن يهدأ لنا بال أو يغمض لنا جفن ولن تهدأ ثورتنا السلمية إلا بتحقيق هذه المطالب ".
أما الآخر, فسجله نظيف من الحسنات وكله سيئات فلم يختطف إلا ما يساوي عدد شعر رأسه فقط من رجال الله وقاطرات النفط والغاز وممن يستحقون الخطف عقابا لهم على ذنوب ارتكبوها, ولم يقتل إلا قليلا, وقيل أنه بعد أن أظهر مهاراته في تخطي الحواجز وسحق النقاط الأمنية بمسلحيه كوفئ بأن عين مسؤولا عن مكافحة الإرهاب في حارته وملاحقة المجرمين من أبناء جلدته, وهو من أول المطالبين بدولة مدنية حديثة.
أما الثالث فهم دعاة المدنية وهم في الحقيقة عساكر إما بالفطرة أو بالقرابة أو بالوراثة, فإن حاولت التفريق بينهم وبين العسكر فلن تستطيع فبيوتهم كلها معسكرات وفصائل دمائهم تتزاحم فيها كرات البارود البيضاء مع الحمراء والبلاد كلها معسكر واحد لاتستطيع التفريق بين ما يوجد في وحدة عسكرية في صنعاء وبين منزل هذا الشيخ المتمدن أو الأستاذ المتحضر أو مقرات الأحزاب والجماعات الدينية ومنظمات المجتمع المدني وهم في الغالب لايخضعون لقانون ولا لدستور ولا لنظام ولو ارتكب الواحد منهم جرائم أكثر من جرائم سلوبودان ميلوسوفيتش فلا يعرف للسجون طريقا ولا للمحاكم والنيابات بابا.
وكم قرأت عن الدولة المدنية بأن ( مؤسساتها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا تدار بواسطة عسكريين أو رجال دين وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والفكر ولا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر, فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك, فهي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم) .
ولعل من بشائر الدولة المدنية الحديثة في بلادنا, أن كل واحد يريد التخفيف على الدولة ويعطي نموذجا للمدنية الحديثة فيطبق القانون بنفسه ويخفف عن كاهل السجن المركزي فيبني له سجونا خاصة, كما أن من علاماتها ما يحدث هذه الأيام من نهب وتقطع وخطف لم يقتصر على أصحاب هذه المهنة بل ساعدهم فيها أعضاء في مجلس نواب ولعل أغرب حالة تقطع ما جاء في تقرير لمراسل إذاعة هولندا العالمية أن أحد القطاعات في اليمن الشهر الماضي كان سببه خلافات زوجية.
أما القطاعات القبلية حسب تقرير لوزارة الداخلية أدخلها الله فسيح جناته التي شهدها شهر أكتوبر لم تتسبب إلا في 300 مليون ريال خسائر, وهذا كلام وزارة الداخلية وليس كلامي استهدفت المئات من قاطرات النفط والغاز وقاطرات البضائع واحتجزتها أحيانا لما يزيد عن عشرة أيام بمحافظات البيضاءوصنعاء ومأرب ، وسقط ثمانية شهداء فقط و17 مصابا في 130 حالة قطع طريق وقطاع قبلي امتدت إلى محافظات صنعاء و ذمار ومأرب والبيضاء والمحويت و تعز وعمران و أمانة العاصمة و شبوه وريمة والحديدة( ما الذي بقي من اليمن ؟) ، وتقول الداخلية حفظها الله ورعاها أن 545 طقما تابعا للأمن انشغلت بالتعامل مع القطاعات لرفعها من الطرقات.
ولعل أغرب ما في بيان وزارة الداخلية أن 49 من القطاعات القبلية المرصودة قد تم إقناع من قاموا بها وهي ذات طابع مطلبي صرف باللجوء إلى القنوات القانونية والرسمية لمعالجة مطالبهم وهي لم تدم على الطرقات سوى عدة ساعات ( وهذا يعني شرعنة رسمية للتقطع )، فيما تسبب 20 قطاعا أقيمت على خلفية نزاعات مالية وأراضي في إيجاد 25 قطاعا مضادا لها من نتائجها احتجاز 56 سيارة ومركبة من قبل طرفي القطاعات المتنازعة.
وتخلص الوزارة إلى القول أن " أيا من القطاعات والقطاعات القبلية التي وقعت خلال شهر أكتوبر الماضي عجزت عن تحقيق أهدافها وفاقمت المشاكل التي تمترس وراءها المقاطعون ( وهي تسمية مدللة لقطاع الطرق ) وتحولت أعداد منها إلى جرائم جنائية انعكست سلبا على الأمن والاستقرار والسلم الأهلي ".
والخلاصة, أنهم كلهم يريدون دولة مدنية لكنهم يريدونها مُدَنية, في حين أن الغالبية من هذا الشعب يريد أولا أن يرى الدولة, وليس مهما بعد ذلك من يحكمها العسكر أم المدنيون.