ليست هناك تجربة في التاريخ الإنساني يمكن الاستعانة بها لتفسير الحالة الصينية التي اقتحمت كل صور التطور التاريخي بحرارة وتفرد واتساع ووقار، فالصين هي الراعي الرئيسي للعملاق العالمي الولاياتالمتحدةالأمريكية لتحول بينه وبين الانهيار، فبالرغم من امتلاك الصين دَيْناً يصل إلى 24 ألف دولار على كل مواطن أمريكي من أصل ديون عديدة، إلا أنها الدولة التي لا تتغطرس ولا تحاول أن تترجم نفوذها بتحريك حاملات الطائرات أو أقمار تجسس، ولا تحاول أن تزج بنفوذها لممارسة دور عالمي يكسب شركاتها صفقات تجارية تعزز اقتصادها، هي تنتج فيصل نفوذها إلى كل زاوية في قلب التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية، وكأنها تنين تأهب لينغمس في أدق أسرار التطور الإنساني دون أن يفقد مهابته أو تميزه، والأهم احترامه لنفسه ولشعوبه. حدث أن التقيت في مأدبة عشاء مساء الخميس الماضي في منزل العزيز سفير الجزائر في صنعاء الذي لا يتوانى في تحويل دعواته إلى أوسع حالات التداول السياسي والتقارب الفكري والتعارف الإنساني، فشاءت الصدفة أن يكون إلى يميني على المائدة سفير جمهورية الصين، رجل فتي متوقد الذهن، كأنه قبس من نبيهم لاوتسو، وحكيم مثل كنفوشيوس، وعلى النقيض من سفير الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا تحس بأن كارثة تختفي وراء عباراته السلسة، كما أنك لا تشعر بأي نوع من التعالي أو الغرور وكأن في صلب دمه (DNA) إمبراطور حديث لا تأخذه عزة الرخاء المباغت ولا التطور السريع. كما أنه لا يتوكأ على عنصر التفوق الاقتصادي أو يتباهى في استعراض العملاق الدولي ولا يحلم أن يكون قائداً لكوكب الأرض كما يتصور الأمريكان، تحس أن هذا الرجل الودود والدبلوماسي المحنك يجمع بين الحكمة والحذر وكأنه قد رضع من حليب طفولته تعاليم ((دنغ هيساو دينغ)) الشهيرة (راقبوا بهدوء؛ أمنوا مواقعنا، تدبروا شؤونكم بهدوء؛ أخفوا قدراتنا وانتظروا الفرصة المناسبة؛ أتقنوا من التواضع، حذاري ادعاء القيادة) ص96 رؤية استراتيجية برجينسكي. دون شك هكذا تصرف يستدعي أن تنصت إلى هذا الرجل الذي يمثل بحق التطور المبهر للصين، فهو خلال عام 1984م كان في اليمن وفي مدينة تعز يشرف على إنجاز منحة صينية لتدريب الفرق الرياضية، وكان حينها يعلم أن الصين لا تنتج علبة ماء كالتي تنتجها دول الغرب عموماً، وكان يقتني من أسواق تعز الملابس التي سيحملها هدايا لأقربائه في الصين (حسب تعبيره)، لكنه اليوم يعود إلى صنعاء سفيراً لدولة عظمى، حتى وهي فقيرة، فقد قدمت لنا الطريق وقدمت مصنعاً للغزل والنسيج، كما قدمت لنا مدرسة فنية وقدمت لنا عشرات الأطباء ليعالجوا مرضانا.. ودون أي مناوشة أو استدراج يفشي السفير الرائع سر نجاح الصين بجمل قصيرة تفك لنا أحجية السير نحو الحداثة والتنمية، قال لي وصديق آخر من ثوار سبتمبر: "الصين نجحت لأنها التزمت بأربعة مبادئ: 1-رسخت قواعد الاستقرار السياسي في البلاد. 2-أخذت بجدية العمل بالإصلاحات وكذا السعي الدؤوب نحو الانفتاح. 3-رسمت والتزمت بسياسة خارجية سليمة وتخدم مصالح الصين. 4-أخذت على نفسها قرار الاعتماد على النفس كخيار استراتيجي. هذه المبادئ الأربعة دفعت إلى أعماق التربة الصينية مداميك التقدم نحو مستقبل يجمع بين الكبرياء الإمبراطوري الصيني وحصافة ومعاناة وإدراك الحس الجمهوري، وهو جمع لمزيج يبدو متعارضاً، ولكنه يكون حقيقة المصير الصيني المشرق. لاغرابة أن تجد في السفير الصيني فورة الذكاء وحصافة الصبر، ربما يجعلني أدرك مغزى ما أورده برجينسكي في كتابه الأخير "رؤية استراتيجية" قال في ما يشبه المسلَّمة (إن انحطاط أمريكا وصعود الصين حتميان)، لكن دبلوماسياً صينياً علق على هذا القول بكياسة وبلغة قادرة على الوصول إلى المسامع الأمريكية: إذا كان انحطاط أمريكا حتمياً وصعود الصين يبدو قسرياً لكن نرجوكم أيها الأمريكان لا تدعوا أمريكا تنحط بسرعة مفرطة.. وليس لنا إلا أن نقول أيها اليمانيون خذوا بالشروط الأربعة للتطور من أفواه الصينيين، والآن فالوقت العالمي لا ينتظركم ومرحى بالصين المتجددة بل المختلفة بين 1984 و2013م. وعلى فكرة أول من كتب عن المراسيم والبروتوكولات هو كونفوشيوس قبل أكثر من 2600 عام، فهلا فتح الصينيون مدرسة للدبلوماسية والبروتوكول والمراسيم، علنا نعلِّم سفراءنا كيف يصونون مصالح اليمن ويعكسون صورته أمام العالم.