رئيس تحرير القدس العربي في مثل هذه الأيام، وقبل تسع سنوات، قمت بزيارة إلى صنعاء لحضور احتفالات الذكرى العاشرة للوحدة اليمنية، فقد كنت، وما زلت، من أكثر المؤيدين، بل والمتحمسين، لكل المشاريع الوحدوية العربية، والمحرضين على ضرورة استعادة هذه الأمة لمكانتها التي تستحق بين الأمم، وإنهاء حالة التشرذم والانهيار التي تعيشها حاليا في ظل أنظمة وحكومات رهنت مقدراتها وقراراتها في أيدي قوى خارجية، واستعمارية على وجه التحديد. اعترف أنني أشعر بالقلق الشديد، ليس فقط على مستقبل الوحدة اليمنية التي شكلت بارقة أمل أثلجت صدر الكثيرين، وإنما على مصير اليمن نفسه، لأنه لا يواجه خطر التشطير فقط، وإنما التحول إلى دولة فاشلة، على غرار ما حدث ويحدث في الصومال، وأفغانستان، والعراق. فالوحدة اليمنية حتى تستمر لا بد من تحقيق شرطين أساسيين، الأول الديمقراطية وما يتفرع عنها من حريات وتوسيع دائرة المشاركة في الحكم من خلال تعددية سياسية وقضاء مستقل، والثاني المساواة بين أبناء الشطرين، والحيلولة دون سيطرة الشمال المنتصر على الجنوب المهزوم أثناء حرب الانفصال الأولى. ومن المؤسف أن هذين الشرطين، إلى جانب شروط أخرى، غير موجودين بالشكل المطلوب في الوقت الراهن. الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي وقعت في بعض محافظات الجنوب اليمني، وانعكست على شكل صدامات بين قوات الأمن والجيش من ناحية وبعض المتظاهرين من ناحية أخرى، جاءت بمثابة أقوى جرس إنذار لحكومة صنعاء المركزية، وبداية انفجار بركان الاحتقان المتراكم على مدى العشرين عاما الماضية. مطالب المحتجين في الجنوب عادلة دون أدنى شك، فهناك غبن وتمييز في الوظائف، وميزانيات التنمية، ومظالم عديدة أخرى من أوضاع اقتصادية متدهورة، وقد تقدم الحكومة مثل جميع الحكومات الأخرى، إحصاءات وبيانات تحاول إثبات العكس، ولكن الوقائع على الأرض لا تكذب. الحكومة اليمنية تتحدث عن المساواة، وتنفي أي تميز للشمال على حساب الجنوب، وهذا صحيح، ولكن في حالة واحدة وهي المساواة في الفقر والمعاناة وانعدام الوظائف، والشكوى من الفساد، ونهب حيتان النظام ثروات البلاد وتوظيفها على شكل إمبراطوريات ضخمة تتصرف كما لو أنها فوق القانون، ودولة داخل الدولة. المظالم ليست مقتصرة على أبناء الجنوب فقط، وإنما على جميع أبناء الشعب اليمني دون تمييز، والاستثناء الوحيد هو لفئة رجال الأعمال الملتفة حول النظام، ومعظمهم من أهل الحكم، أو المجموعات القبلية الملتفة حولهم. الرئيس اليمني علي عبد الله صالح جدد يوم أمس تحذيره من تشطير اليمن، والعودة به إلى مرحلة ما قبل الوحدة، مشددا على أنه لن يسمح لأية مشاريع تستهدف الوحدة أن ترى النور، وذلك أثناء لقائه بوجهاء قبليين من منطقة يافع جنوب اليمن، ولكنه لم يقل كيف سيواجه هذه المشاريع، وما هي خطط العمل التي سيتبعها في هذا الخصوص. السلطات اليمنية استخدمت القمع وإطلاق الجيش للتصدي للمظاهرات، كما أغلقت صحفا، وحاصرت أخرى، واعتقلت صحافيين وكتابا، ولكن هذه الأساليب ربما تعطي نتائج عكسية تماما، من حيث صب مزيد من الزيت على نار الاضطرابات. فإذا كانت قد نجحت في بعض الدول، فهو نجاح مؤقت، مضافا إلى ذلك أن ما يصلح لهذه الدولة لا يصلح لليمن بسبب اختلاف ظروفه، وتعقيد نسيجه الاجتماعي والمذهبي، ووجود قوى خارجية بعضها إقليمي، وبعضها الآخر دولي تتدخل لإشعال نار الفتن، وتشجيع محاولات الانفصال. اليمن مستهدف، ففي شماله هناك تمرد الحوثيين الذي يهدأ فترة ليعود للاشتعال من جديد، وفي جنوبه هناك عملية تجميع متسارعة للجماعات والعناصر الانفصالية، ولعل الاستهداف الأخطر هو القادم من قبل تنظيم 'القاعدة' المتشدد. أذكر إنني سألت الشيخ أسامة بن لادن عندما التقيته في كهفه في جبال تورا بورا المطلة على جلال آباد في أفغانستان، ذات شتاء قارس، عما سيفعل إذا ما اضطرته الظروف لمغادرة أفغانستان كرها 'مثلما جرى إبعاده من السودان (كان عائدا لتوه من الخرطوم)؟ فقال لي دون تردد: " إلى اليمن" فجباله أكثر عطفا علي من أي مكان آخر في العالم. في الأسبوع الماضي ازدحمت بعض مواقع الانترنت بشريط صوتي للسيد أبو بصير ناصر الوحيشي زعيم تنظيم 'القاعدة' في الجزيرة العربية، أكد فيه مساندة التنظيم لأبناء جنوب اليمن في تمردهم على النظام، وتبنيه لمطالبهم في العدالة والمساواة وإنهاء عمليات القمع التي يتعرضون لها. هذا الشريط لا يجب أن يكون مصدر قلق للرئيس علي عبد الله صالح وأركان حكمه فقط، وإنما أيضا لمختلف حلفائه في الرياض وباقي عواصم دول الخليج أيضا، لأن فتح فرع جديد لتنظيم القاعدة في اليمن يعني تهديدا مباشرا لكل هذه الدول دون استثناء. ومن المفارقة أن معظم دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية سارعت للتأكيد على حرصها على الوحدة اليمنية وصلابتها، ودعمها لحكومة اليمن، بعد صدور شريط القاعدة هذا بدقائق معدودة، والشيء نفسه فعلته الولاياتالمتحدةالأمريكية. فالدول الخليجية تدرك جيدا أن زعيم تنظيم القاعدة هو الأكثر شعبية في اليمن، شماله وجنوبه، ليس بسبب أصوله اليمنية فقط، وإنما لأنه يمثل التمرد على الفساد، والفقر، والهيمنة الغربية على مقدرات الأمة الإسلامية في نظر معظم هؤلاء، وانهيار اليمن وتحوله إلى دولة فاشلة يعني تحوله غالى منصة لإطلاق العديد من الخلايا تجاهها بسياراتهم المفخخة، وخبراتهم التي كونوها أثناء سنوات القتال في أفغانستان والعراق وشمال إفريقيا. اليمن غابة سلاح، وتنظيم 'القاعدة' لا يحتاج إلى تهريب متفجراته وقنابله وصواريخه إلى هذا البلد، كما أن طبيعته الجبلية الوعرة هي الأقرب لطبيعة أفغانستان، مضافا إلى ذلك أن الإنسان اليمني الذي يعتبر الأشجع من بين أقرانه العرب، وربما الأكثر تديناً يجد في تنظيم 'القاعدة' الملاذ للهروب من حالة الإحباط والفقر التي يعيشها، وهذا ما يفسر وجود نسبة كبيرة من اليمنيين أعضاء في هذا التنظيم، ويتولون أماكن بارزة في قيادته. الدول الخليجية أخطأت مرتين في حق اليمن، الأولى عندما تعاملت معه بطريقة ثأرية انتقامية طوال السنوات الماضية بسبب اتهامه بمساندة النظام العراقي أثناء غزو قواته للكويت، والثانية عندما وضعت والعقبات أمام انضمامه لمجلس التعاون الخليجي، وأقفلت الأبواب أمام توظيف مئات الآلاف من العاطلين من أبنائه، وأحجمت عن توظيف مئات المليارات من عائداتها النفطية الضخمة في مشاريع تنمية واستثمار على أرضه، وربما تدفع ثمنا غاليا بسبب هذين الخطأين إذا ما انهار النظام بسبب الضغوط الشعبية في الشمال والجنوب معاً. فمن العار أن يحتل اليمن مكانة بارزة في الدول العشرين الأكثر فقرا في العالم وجواره الخليجي لا يعرف كيف يتصرف بآلاف المليارات التي تزدحم بها خزائنه وصناديقه الاستثمارية السيادية. مرحلة التشطير السابقة التي سبقت الوحدة لم تكن وردية، وإنما مليئة بالصدامات والحروب والانقلابات، ولذلك فالحنين إليها ليس ظاهرة صحية، كما أن استمرار الظلم والفساد تحت مسمى الحفاظ على الوحدة ليس الخيار الأفضل، ولا بد من تحرك سريع يقوم على أساس حوارات ومصارحات لإخراج البلاد من المصير المشؤوم الذي ينتظرها. لا نملك وصفة سحرية للخروج من هذا المأزق، ولكن ما يمكن قوله هو أن اليمن بحاجة إلى تحرك سريع من قبل نظامه وجيرانه في الوقت نفسه، من خلال برنامج "إنقاذ" شامل، يقوم على أساس القضاء على الفساد بطرق عملية وجذرية، وتوسيع دائرة الحكم، والعودة إلى الصيغة الديمقراطية التي تجلت في مرحلة ما بعد الوحدة، وضخ عشرات المليارات من الاستثمارات لخلق الوظائف والقضاء على الفقر، شريطة أن لا تكون مرتبطة بأي 'مِنَّة' وإنما الاعتراف بأنها حاجة ومصلحة خليجية قبل أن تكون مصلحة يمنية، واستيعاب المزيد من العمالة اليمنية في أسواق العمل الخليجية. الرسول الكريم (ص) قال " جاءكم أهل اليمن. هم ارق قلوبا، وألين أفئدة، الإيمان يمان. والحكمة يمانية'، ما أحوجنا إلى هذه الحكمة والى هذا الإيمان في هذه الأيام العصيبة.