يستحوذ اليمن الآن على الاهتمام الأكبر من وسائل الإعلام العالمية، وبات يحتل موقعَ الصدارة من نشرات الأخبار العالمية، بحكم ما يشهده من توترات محلية واحتجاجات متوالية. واليمن معدودٌ كأفقر بلدٍ في شبه الجزيرة العربية وواحدٍ من أفقر دول العالم، حسب تصنيف الأممالمتحدة، وهو لا يعاني اضطراباتٍ اقتصاديةً وظروفاً اجتماعيةً سيئةً ونموّاً سكانيّاً سريعاً فحسب، بل يعاني كذلك, في ازدياد, صراعاً داخليّاً يهدد بحرب أهلية مقيتة.
المتأمل في تداعيات الأزمة اليمنية المعقَّدة والخطيرة سيجد أن الأزمة الراهنةَ لم تكن وليدةَ اللحظةِ السياسيةِ، بقدر أنها تراكماتٌ لإخفاقات مستمرة من قِبَل النظام الحاكم.
الاحتقانُ الحاليُّ شمالاً والسخط تفاقَم جنوباً على وجه الخصوص، وبدأت تأخذ بعداً سياسيّاً خطيراً، متمثلاً في المطالبة بالاستقلالِ مما بات يطلق عليه الجنوبيون الاحتلالَ الشمالي، والحوثيون في شمال الشمال في حربٍ دامية ومستمرة مع الحكومة منذ خمس سنوات, سعياً وراءَ أهدافٍ لا تعلمُها إلا السلطةُ الحاكمةُ والحوثيون أنفسُهم, لغموض هذه الحرب وهذه الحركة العسكرية المريبة.
يعود أصل حركة الحوثيين إلى نهاية التسعينات بقيادة حسين بدر الدين الحوثي، الذي استغل تنظيم «الشباب المؤمن» الذي كان قد تأسس سنة 1990م كمنتدى لتدريس العقيدة الشيعية الزيدية في منطقة صعدة، بعد أن انشقَّ عن حزب الحقِّ الذي كان من القيادات البارزة فيه.
وكان «الحوثي» عضواً سابقاً في مجلس النواب بعد فوزه في انتخابات عام 1993م، وعلى الرغم من أن والده كان من أبرز المرجعيات الشيعية للمذهب الزيدي في اليمن، فإنه بدا أقرب إلى المذهب «الاثني عشري» الإمامي، خاصةً بعد زياراته المتكررة إلى طهران، وهو ما عدَّه البعض خروجاً لحركته عن المذهب الزيدي الذي يتبعه نحو 30% من سكان اليمن.
في البداية ظلت حركة «الحوثي» لسنوات طويلة حركةً ثقافيةً فكريةً دعويةً بعيدةً عن السياسة، بل إنها تلقَّت دعماً من حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في سعيه لمواجهة نفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي المعارض، إلا أنه منذ عام 2002م بدأت الحركة تتجه إلى السياسة وتأخذ خط المعارضة ضد الحكومة والولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
وكان عام 2004م البداية الحقيقية لتلك التحركات, حيث قام عددٌ من أعضاء تنظيم الشباب المؤمن بمظاهرات سلمية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، والممارسات الصهيونية الوحشية ضد الفلسطينيين، لكن السلطات اليمنية واجهت المظاهرة بحملة اعتقالات واسعة شملت المئات من مناصري التنظيم، ووجَّهت اتهامات للحوثي، منها ادعاؤه الإمامة والمهديّة والنبوَّة، ودفعت بعض علماء الزيدية إلى إصدار بيان أدان انحرافاته الفكرية وتهجمه على مقدسات الأمة.
وأعقبت ذلك بشنِّ حربٍ مفتوحة حشدت لها 30 ألف جندي، واستخدمت فيها الطائرات والسلاح الصاروخي والمدفعية الثقيلة، وأسفرت معاركها الأولى عن مقتل حسين بدر الدين الحوثي، وكانت تلك أولى مراحل الصراع بين الطرفين.
المرحلة الثانية للصراع بدأت في شباط 2005م بقيادة «الحوثي الأب»، وأسفرت عن اختفائه عن الساحة اليمنية، وقد أشارت بعض التقارير حينها إلى أنه قُتِلَ خلال المعارك، لكنَّه ظهر بعد ذلك، وعاد إلى البلاد بعد الاتفاق الذي تمَّ التوصل إليه لاحقاً بين الحوثيين والحكومة اليمنية عام 2007م.
أما المرحلة الثالثة فقد بدأت أواخر عام 2005م، وانتهت باتفاقٍ بين الطرفين في شباط 2006م، ومع بداية عام 2007م بدأت المرحلة الرابعة للصراع بقيادة «عبد الملك»، أحد أبناء «الحوثي», وذلك على خلفية اتهام السلطات اليمنية للحوثيين بالعمل على طرد اليهود من محافظة صعدة.
وتتهم الحكومة اليمنية المتمرّدين الحوثيِّين بالسعي للإطاحة بها، بينما يتهم المتمرِّدون الحكومة بالفساد والولاء للغرب والتمييز ضدهم.
فالاشتباكات الدامية الأخيرة التي وقعت بين رجال الأمن وأتباع الحوثي في «الحراك الجنوبي»، وذهب ضحيتها العشرات بين قتيلٍ وجريحٍ في مدينة زنجبار بمحافظة أبين الجنوبية الخميس 23/7, أعطت مؤشراً قويّاً بأن الوضع خرج عن السيطرة، وأن الأجهزة الأمنية فقدت أعصابها حيال التعامل بحكمةٍ مع المتظاهرين للخروج بأقل الخسائر.
مواجهة زنجبار في نظر العديد من المراقبين قد تفتح الباب أمام الجنوبيين لمعارك قادمة بدافع الانتقام من قوات الأمن وبدافع الثأر إذا كان المنفِّذون الأمنيون لهذه المواجهة من الشمال، كما قد تكون (الشرارة الأولى) لثورة جنوبية ضد الشمال، متّخذين من رصيد هذه المجزرة الدامية دافعاً ومنطلقاً لتحقيق الغاية الانفصالية التي يتزعَّمها علي سالم البيض نائب الرئيس اليمني السابق.
القضايا الملتهبة حاليّاً في اليمن تتمركز حول (القضية الجنوبية) التي أصبحت تقوى يوماً بعد يوم، وتتجه بشكل مطَّرد نحو التجذُّّر والاستقواء بالداخل والخارج، بالإضافة إلى قضية التمرُّد الحوثي في صعدة بشمال اليمن، الذي يتجه نحو التوسع ويُنذر بحرب جديدة مع القوات الحكومية، فضلاً عن عدد من القضايا المزمنة كمسألة الفساد والقضايا الأمنية والاقتصادية وغيرها.
عوامل داخلية وخارجية
وثمة عوامل داخلية وخارجية أسهمت وما زالت في تفجير الصراع واستمراره بين الحوثيين والحكومة اليمنية، حسب المراقبين.
فالولايات المتحدة تقف إلى جانب الحكومة اليمنية في مواجهتها الحوثيين، وتعتبر أن ما يجري يدخل في إطار الحرب العالمية التي تقودها على الإرهاب، ولا تفوِّت الإدارة الأمريكية فرصةً إلا وتؤكد هذا الموقف، فالسفير الأمريكي في صنعاء سعى دائماً إلى تأكيد الصلة الوثيقة بين الحوثيين وتنظيم القاعدة.
من جانبه يسعى النظام الحاكم في اليمن إلى استغلال هذا الموقف للحصول على الدعم الأمريكي سياسيّاً وماديّاً، خاصةً لجهة تخفيف الضغوط الدولية ضده في ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان في اليمن.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تمنع الحكومة اليمنية من حسم المعركة العسكرية ضد الحوثيين، إضافةً إلى أسباب أخرى تتعلق بالدعم الخارجي الذي يلقاه الحوثيون، سواءٌ على الصعيد السياسي أو المادي.
كما أن الطابع القبلي المسيطر على اليمن يمثِّل هو الآخر عائقاً أمام السلطات اليمنية في المواجهة مع الحوثيين, حيث تشير المصادر المختلفة إلى أن هناك بعض القبائل التي تدعم الحوثيين بوازع الثأر من النظام الحاكم, بسبب مقتل بعض أبنائها في المواجهات السابقة.
ولعل التهديدات الأخيرة للحوثيين بتصعيد المواجهات مع الحكومة اليمنية ونقل المعارك إلى خارج مدينة صعدة الواقعة شمال غرب اليمن لتشمل كافة محافظات البلاد, دليلٌ آخر على تعقُّد هذا الصراع وصعوبة إنهائه بشكل حاسم يحفظ للبلاد أمنها ووحدتها.